غزوة بدر والوفاء بالعهد

0 1074

وقعت غزوة بدر في السابع عشر من رمضان في العام الثاني من الهجرة النبوية (الموافق 13 مارس 624م) بين المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، وقريش ومن حالفها من العرب بقيادة أبي جهل عمرو بن هشام. وقد سميت غزوة بدر بهذا الاسم نسبة إلى المنطقة التي وقع القتال فيها بالقرب من بئر بدر بين مكة والمدينة المنورة، وقد انتهت هذه الغزوة المباركة بانتصار المسلمين على قريش وقتل قائدهم عمرو بن هشام، وقد قال الله عنها: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون} (آل عمران:123). وغزوة بدر هي إحدى الغزوات المليئة بالدروس والقيم، والمواقف النبوية التربوية والحضارية، ومنها:

الوفاء وحفظ العهد ولو مع المشركين

علم النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشا خرجت لحربه وقتاله في بدر، وكان عدد المسلمين في غزوة بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وكان تعداد جيش قريش ألف رجل، أي كانوا يشكلون ثلاثة أضعاف جيش المسلمين من حيث العدد تقريبا، ومع قلة عدد المسلمين، يصل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ووالده إلى النبي صلى الله عليه وسلم رغبة في الجهاد معه وطمعا في الشهادة في سبيل الله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم مع قلة عدد أفراد جيشه وحاجته لهما يردهما ولا يأخذهما معه للقتال، لعهد قد عاهدا به قريشا. فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، فقال: (انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) رواه مسلم، وفي رواية الحاكم قال حذيفة رضي الله عنه: (فذاك الذي منعنا أن نشهد بدرا).

هذا الموقف ـرغم صغرهـ من غزوة بدر يعطي صورة مشرقة لتأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على خلق الوفاء، وحفظ العهد مع الأعداء، ويعد من مفاخر أخلاقيات الحروب في تاريخ الإنسانية، فلم ير المؤرخون في تاريخ الحروب على مر التاريخ موقفا يشابه هذا الموقف النبوي في الوفاء وحفظ العهد مع الأعداء، برغم ما يعلو هذه العهد من شبهة الإكراه والخوف الذي جعل حذيفة رضي الله عنه يوافق عليه.

قال النووي في قول حذيفة رضي الله عنه: (فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة): "في هذا الحديث جواز الكذب في الحرب، وإذا أمكن التعريض في الحرب فهو أولى، ومع هذا يجوز الكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وكذب الزوج لامرأته، كما صرح به الحديث الصحيح، وفيه الوفاء بالعهد...وأما قضية حذيفة وأبيه فإن الكفار استحلفوهما لا يقاتلان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة بدر، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء، وهذا ليس للإيجاب، فإنه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام ونائبه، ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يشيع عن أصحابه نقض العهد". وقال القاضي عياض: "فيه: جواز الكذب للحالف والتعريض، إذا أمكنه وعند الضرورة. وفيه: وجوب الوفاء بالعهد وإن كان مكرها". 

وقال ابن القيم: "ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن أعداءه إذا عاهدوا واحدا من أصحابه على عهد لا يضر بالمسلمين بغير رضاه أمضاه، كما عاهدوا حذيفة وأباه الحسيل أن لا يقاتلاهم معه صلى الله عليه وسلم، فأمضى لهم ذلك، وقال: انصرفوا نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم". وإذا كان هذا هو قدر احترام العهد والوفاء به مع الأعداء، فكيف يكون بين المسلم وأخيه؟.

وعلى الرغم من أن أعداء النبي صلى الله عليه وسلم بذلوا غاية جهدهم للقضاء عليه وعلى دينه ودعوته، وكادوا له ولصحابته، إلا أنهم وهم في شدة عداوتهم له، وعدم إيمانهم به، اعترفوا بعظيم خلقه وجميل وفائه، فقال مكرز بن حفص في نفر من قريش أثناء صلح الحديبية للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما عرفت بالغدر صغيرا ولا كبيرا، بل عرفت بالبر والوفا".

ولما سأل هرقل أبا سفيان ـ وهو عدو لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ ولم يسلم بعد ـ في الحديث الطويل الذي رواه البخاري في صحيحه ـ: "أيغدر محمد؟ فقال: لا، فقال هرقل: وكذلك الرسل لا يغدرون).
 قال ابن بطال: "قد جاء فضل الوفاء بالعهد وذم الغدر فى غير موضع فى الكتاب والسنة، وإنما أشار البخارى فى هذا الحديث إلى سؤال هرقل لأبى سفيان: هل يغدر؟ إذ كان الغدر عند كل أمة مذموما قبيحا، وليس هو من صفات رسل الله، فأراد أن يمتحن بذلك صدق النبي؛ لأن من غدر ولم يف بعهد، لا يجوز أن يكون نبيا؛ لأن الأنبياء والرسل عليهم السلام أخبرت عن الله بفضل من وفى بعهد، وذم من غدر".

لقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الوفاء بالعهد، ولو مع الأعداء والكفار، والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف  الدالة على ذلك. ومن هذه المواقف: موقفه في غزوة بدر مع حذيفة ووالده بعدم الإذن لهما بالقتال معه، على الرغم من حاجته إليهما، وقوله لحذيفة: (نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)، ولن تجد في كتب التاريخ والسير أحدا يداني نبينا صلى الله عليه وسلم في عظيم خلقه، وكمال شخصيته، وباهر وفائه، فهو خير البرية وأفضلها، قال الله تعالى عنه: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم:4). 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة