تأليه الهوى واستعباد الشهوات في البيان القرآني

0 1223

تحدث القرآن الكريم كثيرا عن أولئك الذين انحرفوا عن طريق الفطرة وضلوا الطريق إلى بارئ النسم وموجدهم من العدم، فتنكروا لعبوديتهم له ونعمه عليهم ووقعوا أسارى شهواتهم مضطهدين تحت سلطان هواهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى أكثر مظاهر هذا التأثير حدة وذلك عندما يبلغ درجة يصبح بها المتصرف في ميول واتجاهات المرء فيصبح الآمر الناهي، فتجد الواحد منهم يهرب من العبودية لله إلى عبودية هواه! ومن عز التوحيد إلى دركات الشرك، ومن رق واحد وعبودية محضة لله الواحد القهار إلى استرقاق أرباب متفرقين؛ وكما يقول ابن القيم فإن هؤلاء:
هربوا من الرق الذي خلقوا له ... فبلوا برق النفس والشيطان.

لقد جاءت مقاصدية تحقيق مقام العبودية واضحة جلية في أهداف الدين القويم في مجتمعات كانت تضج بالاستعباد على كل الصعد والمستويات؛ فقد كانت الطبقات الدنيا تدين بالاستعباد لسادات المجتمع وكبرائه، والسادات يرزحون تحت نير عبودية الكهنة والطاغوت، والكهنة تستعبدهم حجارة لا تنفع ولا تضر، وتقلبات في مظاهر الكون ربطوها بمصائر الخير والشر ونسبوا إليها زورا التأثير في أحداث الماضي والحاضر، ومجريات الأحوال ومآلات الآمال، في هذه البيئة الغارقة في وحل الوثنية ولاستعباد جاء الدين القويم ليستل البشرية من تأليه الهوى، ويرقى بها إلى مقام العبودية الحقة لله المولى، يستخرجها من ظلمات العبوديات التي يرزح بعضها فوق بعض، إلى عبودية واحدة يستوي فيها جميع البشر وكل المخلوقات، يستوي فيها الغني والفقير والسيد والحقير.

وقد تحدث القرآن الكريم عن مستويات إتباع الهوى؛ ويمكننا هنا التمييز بين صنفين – على  الأقل - من أصنافه؛ وهما:
الأول: إتباع الهوى استجابة لداعي الشهوات ونزوات الغرائز والملذات والميول البشرية: وفي هذا الصنف يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} [النساء: 135]، وقال تعالى: {فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص: 26].
 
الثاني: اتخاذ الهوى دينا وإلها ومعبودا من دون الله: ومن هذا الصنف كفار أهل الكتاب والمشركين نعوذ بالله من حالهم؛ قال تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50]، وقال تعالى: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين } [الروم: 29]، وقال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم} [الأنعام: 119].
وقال تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77]، وقال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} [البقرة: 120]، وقال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة: 49] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات .

ثم في ختام علاج القرآن لمشكل الهوى وسلطان الشهوات يضع حلولا عملية للتغلب على جدار الصد المتين هذا يتلخص في الآتي:
أولا: مقاومة سلطان الهوى وعصيانه؛ حيث يقول تبارك وتعالى: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى }، [النازعات: 37 - 41].

ثانيا: الاهتداء بهدي الله الذي بعث به رسوله والاعتصام به ففيه ملاذ وغنى للنفوس عن اتباع هواها؛ قال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23].

ثالثا: بما أن النفوس مجبولة على حب هواها فإن القرآن يعترف لها بهذا الطبع البشري لكنه في الوقت نفسه ينهاها عن الاستمراء في إرضاء هوى الأنفس،
مذكرا بالنتائج الوخيمة لاتباع مقتضى الهوى؛ قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله} [الجاثية: 23]، فمن اتبع رغباته وشهواته أينما وجهته يتوجه وراءها يوشك أن يطيع هواه ويعصي الله عز وجل، وذل المعصية لا بد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفا من غير الله، وهذا نوع من العبودية لغير الله واتخاذ للهوى إلها من دونه .

يتلخص من كل هذا أن اتباع الهوى قد يكون شركا أكبر، وقد يكون شركا أصغر، وقد يكون ذنبا من الذنوب والمعاصي كبائر كانت أم صغائر؛ وهو في كل الأحوال تنكب عن جادة الهداية إلى الضلال ومن نجاد الخير إلى طريق الشر؛ دليل ذلك أن الله تعالى ما ذكر الهوى في القرآن الكريم إلا في سياق الذم؛ لأنه مخالف للشرع، وسبب للضلال والانحراف.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة