{..رسولاً من أنفسهم...}

0 1146

عقب حديث القرآن الكريم عن أحداث غزوة أحد، وما أصاب المؤمنين جراءها من بلاء، وتعقيبا على الغنائم والطمع فيها والغلول، والانشغال بهذا الأمر الصغير، الذي كان الانشغال به هو السبب المباشر الذي قلب الموقف في المعركة، وبدل النصر هزيمة، وفعل بالمسلمين ما فعل، جاء قوله سبحانه وتعالى مواسيا لهم على مصابهم: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (آل عمران:164)، ولنا وقفة مع هذه الآية الكريمة.

يخبر سبحانه أنه أنعم على عباده المؤمنين حين أرسل فيهم رسولا من أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم، فلا يفقهوا عنه ما يقول، يقرأ عليهم آيات كتابه وتنزيله، ويطهرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم، ويعلمهم كتاب الله الذي أنزله عليه، ويبين لهم تأويله ومعانيه، والسنة التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا من قبل أن يمن الله عليهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته في جهالة جهلاء، وفي حيرة عن الهدى عمياء، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، ولا يقيمون حقا، ولا يبطلون باطلا، ولا يهتدون سبيلا.

وقد روي عن قتادة في المراد من الآية قوله: "من الله على المؤمنين من غير دعوة ولا رغبة من هذه الأمة، جعله الله رحمة لهم؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم...ليس والله كما تقول أهل حروراء: "محنة غالبة، من أخطأها أهريق دمه"، ولكن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى قوم لا يعلمون، فعلمهم، وإلى قوم لا أدب لهم، فأدبهم".

ولسائل هنا أن يسأل: لم اختص سبحانه العرب بهذا الامتنان مع أن دعوة الإسلام دعوة عامة، وللناس كافة، ولم تكن للعرب خاصة؟ أجاب القاسمي عن هذا السؤال بقوله: "لما لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام، خصوا بالذكر، وإلا فبعثته صلى الله عليه وسلم إحسان إلى العالمين، كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء:107)". وأجاب صاحب المنار عن هذا السؤال، فقال: "وجه هذه المنة الخاصة التي لا تنافي كونه صلى الله عليه وسلم رحمة عامة: هو أنه كونه منهم يزيد في شرفهم، ويجعلهم أول المهتدين به؛ لأنهم أسرع الناس فهما لدعوته".

أما ابن عاشور فقد اعتبر خصوصية العرب بهذه المنة -زيادة على المنة ببعثة محمد على جميع البشر- كونهم هم الذين تلقوا الدعوة قبل الناس كلهم؛ لأن الله أراد ظهور الدين بينهم، ليتلقوه التلقي الكامل المناسب؛ لصفاء أذهانهم، وسرعة فهمهم لدقائق اللغة، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر، فيكونوا أعوانا على عموم الدعوة...ولذلك كان المؤمنون مدة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصة، بحيث إن تلقيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقر الدين.

وقد نص العلماء على أن الإيمان بكون النبي صلى الله عليه وسلم من العرب شرط في صحة الإسلام والإيمان، لا بد من تلقينه لكل من يدخل في هذا الدين، ومن جحده بعد العلم به، يكون مرتدا عن الإسلام.

وقال الإمام الرازي: "وفي قوله تعالى: {من أنفسهم} وجه آخر من المنة؛ وذلك أنه -أي الرسول عليه الصلاة والسلام- صار شرفا للعرب، وفخرا لهم، كما قال سبحانه: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون} (الزخرف:44)؛ وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب، ثم إن الأولين كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل". فما كان للعرب ما يقابل ذلك. فلما بعث الله محمدا، وأنزل عليه القرآن، صار شرف العرب ذلك زائدا على شرف جميع الأمم.

ولسيد قطب رحمه الله كلام نفيس حول هذه المنة، التي امتن الله بها على المؤمنين من عباده بإرساله {رسولا من أنفسهم} يقول رحمه الله: "الإشارة إلى تلك الحقيقة الكبيرة، وما تمثله من منة عظيمة، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية العجيبة، تصغر في ظلها الآلام والخسائر، وتصغر إلى جانبها الجراح والتضحيات. على حين تعظم المنة، ويتجلى العطاء الذي يرجح كل شيء في حياة الأمة المسلمة على الإطلاق.

الإشارة إلى آثار هذه المنة في حياة الأمة المسلمة {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن عهد إلى عهد. فتشعر الأمة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدر الله، الذي يريد بهذه الأمة أمرا ضخما في تاريخ الأرض، وفي حياة البشر، والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، فما ينبغي لأمة هذا شأنها، أن تشغل بالها بالغنائم، التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم، ولا أن تجزع من التضحيات والآلام، التي تبدو هينة يسيرة في ظل هذه الغاية الكبيرة.

والعرب الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يذكرون -ولا شك- ماضي حياتهم وأوضاعهم، ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام، وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام، وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان.

كانوا يدركون أن الإسلام -والإسلام وحده- هو الذي نقلهم من طور القبيلة، واهتمامات القبيلة، وثارات القبيلة، لا ليكونوا أمة فحسب. ولكن ليكونوا -على حين فجأة ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن- أمة تقود البشرية، وترسم لها مثلها، ومناهج حياتها، وأنظمتها كذلك، في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل.

كانوا يدركون أن الإسلام -والإسلام وحده- هو الذي منحهم وجودهم القومي، ووجودهم السياسي، ووجودهم الدولي...وقبل كل شيء، وأهم من كل شيء، وجودهم الإنساني، الذي يرفع إنسانيتهم، ويكرم آدميتهم، ويقيم نظام حياتهم كله على أساس هذا التكريم، الذي جاءهم هدية ومنة من لدن ربهم الكريم".

وجاء ختام الآية قوله سبحانه: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} فقد كانت العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في ضلال بين واضح؛ وأي ضلال أبين من ضلال قوم مشركين، يعبدون الأصنام، ويتبعون الأوهام، أميين لا يقرءون ولا يكتبون، فيعرفون كنه ضلالتهم، وحقيقة جهالتهم، فضلالهم أبين من ضلال أهل الكتاب، كما هو ظاهر لأولي الألباب؛ إذ هو ضلال في التصور والاعتقاد، وضلال في مفهومات الحياة، وضلال في الغاية والاتجاه، وضلال في العادات والسلوك، وضلال في الأنظمة والأوضاع، وضلال في المجتمع والأخلاق.

على أن في الآية ملمحا مهما يتعلق بجانب التزكية النفسية، مستفاد من قوله سبحانه: {ويزكيهم}؛ فالآية تفيد أن تزكية الإنسان وإصلاحه له جهتان:

الأولى: العلم والتعليم، أو الفكر، أو الإقناع، أو المعتقدات...ونحو ذلك من المصطلحات التي تصب في هذا المنحى.

الثانية: العمل، أو التربية، أو التدريب، أو السلوك...وغير ذلك من المصطلحات المرادفة لهذا المعنى.

والقرآن الكريم يحقق الأمرين معا بأكمل وجه، وأحسن صورة لمن آمن به، وسلك الأسباب الموصلة لذلك.

إن القرآن الكريم هو بحق كتاب التربية والتعليم، الذي يغني عما سواه، ولا يغني عنه أي شيء سواه، ولقد أجاد ابن القيم في كتابه القيم "مفتاح دار السعادة" في بيان هاتين الجهتين، وأوضح العلاقة بينهما، فمن المعلوم المقرر أن سلوك الإنسان وتصرفاته لا تصدر بعفوية ولا عشوائية، وإنما تقوم على فكر ومعتقد، وتراكمات علمية، بنيت على مر الأيام والسنين، وعلى خبرات تم تخزينها مع تكرار المواقف والتصرفات منذ الطفولة إلى أن صار رجلا، فمتى أردت الطريق المختصر لتغيير سلوك شخص وتوجهاته، فعليك بتغيير معتقداته وأفكاره، وعدم الاقتصار على ملاحقة مفردات سلوكياته وتصرفاته، وهذا ما يحققه القرآن الكريم لمن عمل بهديه، واقتدى بنهجه، وسار على دربه.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة