الغلو والجفاء في حب إمام الأنبياء صلى الله عليه وسلم

0 1799

من حق نبينا صلى الله عليه وسلم علينا أن نؤمن به، ونشهد أنه رسول الله حقا، كما قال الله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير} (التغابن: 8)، ومن مقتضيات الإيمان به صلى الله عليه وسلم: حقه علينا بمحبته وتعزيره وتوقيره من غير غلو ولا جفاء، قال الله تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا} {الفتح: 9:8)، قال ابن جرير: "معنى التعزير في هذا الموضع: التقوية والنصرة والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال"، وذكر ابن تيمية أن التعزير: "اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه"، والتوقير: "اسم جامع لكل ما فـيـه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار".

وقد تغير وانحرف مفهوم محبة النبي صلى الله عليه وسلم عند البعض, فبعد أن كانت محبته تعني طاعته واتباعه في كل أمر، وإيثاره على كل مخلوق, صار مفهومها عندهم تأليف صلوات مبتدعة, وإقامة موالد, وإنشاد قصائد في حبه ومدحه صلى الله عليه وسلم يصل بعضها إلى حد الوقوع في الشرك، وذلك بالاستغاثة والاستعانة به, والطلب منه، ورفعه إلى مرتبة الألوهية، وكل ذلك من الغلو والانحراف الذي طرأ على المعنى الحقيقي لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ومفهومها. وإذا كان الغلو في محبة النبي صلى الله عليه وسلم مذموما, فإن هذا لا يعني أن يتصف المسلم بنقيض ذلك حتى يصل إلى الجفاء معه, ولا يتأدب بما أوجبه الله على عباده نحوه صلى الله عليه وسلم, بل المؤمن الحق هو الذي يتصف بالوسطية والعدل في شؤونه كلها، ومن ذلك محبته للنبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره من غير غلو ولا جفاء.

الغلو في حب النبي صلى الله عليه وسلم

الغلو في الشرع: هو مجاوزة حدود ما شرع الله عز وجل، سواء كان ذلك التجاوز في جانب الاعتقاد أو القول أو العمل، ولشدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية التوحيد، ولما يعلمه من عظيم حبه في قلوب المؤمنين، نهي عن المبالغة في مدحه، لعلمه بأن هذه المبالغة بريد إلى الغلو، ومدعاة للشرك والانحراف، وقد جاء تحذيره صلوات الله وسلامه عليه من الغلو فيه بأسلوب النهي الصريح تارة، وتارة أخرى بالتجائه إلى ربه ودعائه بأن لا يتحول قبره إلى وثن يعبد، والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، منها:

ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فراجعه في بعض الكلام فقال: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجعلتني مع الله عدلا (وفي لفظ ندا)، لا، بل ما شاء الله وحده) رواه أحمد وحسنه الألباني.
ـ وعن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم غداة بني علي فجلس على فراشي كمجلسك مني وجويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين (من الشعر الذي لا مغالاة فيه)) رواه البخاري.
قال ابن حجر: "وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حين أطلق علم الغيب له، وهو صفة تختص بالله تعالى".
ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري بعدي وثنا يعبد) رواه أحمد وصححه الألباني.
ـ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أن ناسا قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل) رواه أحمد وصححه الألباني، وعن يحيى بن سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! لا ترفعوني فوق قدري، فإن الله اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا) رواه الطبراني وصححه الألباني.
ـ وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تطروني (تجاوزوا في مدحي) كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري.

الجفاء

النهي عن الغلو في حب النبي صلى الله عليه وسلم لا يعني الجفاء معه، فإذا كان الغلو في حبه وتعظيمه ومدحه مذموما, فإن هذا لا يعني أن يتصف المسلم بنقيض ذلك حتى يصل إلى الجفاء معه, وعدم القيام بحقوقه عليه، ولا يتأدب بما أوجبه الله عليه نحوه، ومن صور ومظاهر الجفاء مع النبي صلى الله عليه وسلم:

ـ عدم متابعته وطاعته، وترك سننه أو الاستخفاف بها، وهي أول وأخطر مظاهر الجفاء مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يستقيم حبنا له صلى الله عليه وسلم حتى نتبعه ونطيع أوامره ونعظم سنته، ونعمل بها، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، منها: قول الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} (الحشر:7)، وقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (الأحزاب:21)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يارسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنو ومن عصاني فقد أبى) رواه البخاري، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) رواه مسلم.

ـ ذكره صلى الله عليه وسلم باسمه مجردا، لقول الله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} (النور: 63)، قال ابن كثير: "قال الضحاك عن ابن عباس: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، إعظاما لنبيه صلى الله وسلم عليه، فقالوا: يا رسول الله، يا نبي الله".

ـ ومن صور الجفاء مع النبي صلى الله عليه وسلم: ترك الصلاة والسلام عليه، وقد أمرنا الله عز وجل بالصلاة والسلام عليه فقال: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} (الأحزاب: 56)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشرا) رواه البخاري، وقال: (البخيل: من ذكرت عنده فلم يصل علي) رواه الترمذي وحسنه ابن حجر، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة (حسرة وندامة)، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) رواه الترمذي وصححه الألباني.

ـ ومن الجفاء معه صلى الله عليه وسلم الانتقاص من قدر أحد أصحابه رضوان الله عليهم، فضلا عن سبه وشتمه، فهم أصحابه الذين صاحبوه، وأحبهم وأحبوه، وكان لهم شرف الصحبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) رواه البخاري.

ـ ومن صور ومظاهر الجفاء الخطيرة والتي ربما تغيب عن البعض: رد بعض أحاديثه صلى الله عليه وسلم الصحيحة بحجة مخالفتها للعقل، أو عدم تمشيها مع الواقع، أو المكابرة في قبولها لمخالفتها لهوى النفس، أو الدعوى الباطلة للعمل بالقرآن وحده وترك ما سوى ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) رواه الترمذي وصححه الألباني.
قال ابن القيم: "ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم ألا يستشكل قوله، بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا".

ـ ويلحق بالجفاء مع النبي صلى الله عليه وسلم عدم معرفة شمائله وأخلاقه، وخصائصه ومعجزاته التي خصه الله بها لعلو قدره ومنزلته، إذ معرفة سيرته وخصائصه ومعجزاته تزيد المسلم حبا وتوقيرا، وأدبا واتباعا له صلوات الله وسلامه عليه.

إذا كان حب وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم حبا صادقا مستقرا في القلب، فإن آثار ذلك ستظهر على الجوارح واللسان، حيث يجري اللسان بمدحه والثناء والصلاة عليه، وترى باقي الجوارح ممتثلة لما جاء به ومتبعة لسنته وشرعه وأوامره، ومؤدية لماله من الحق والتكريم، وذلك كله في حدود المشروع، والله نسأل أن يهدي الغالي قصدا واعتدالا، وأن يبدل الجافي حبا وأدبا، والبعيد قربا واتباعا لنبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة