مَنْ كان يعبدُ اللهَ فإنَّ الله حيٌ لا يموت

0 1656

شاءت حكمة الله تعالى أن يكون الموت أمرا عاما لكل أحد، مهما كانت درجة قربه من الله عز وجل، حتى يدرك الناس أنه لو سلم أحد من الموت لسلم منه خير البشر وأفضل الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه، قال الله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} (آل عمران: 185)، وقال: {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر:30)، قال القرطبي في تفسيره: "وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبره بموته وموتهم". وقال ابن كثير: "هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق رضي الله عنه عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى تحقق الناس موته، مع قوله: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} (آل عمران:144)".

والنبي صلى الله عليه وسلم مات يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول في العام الحادي عشر للهجرة النبوية الشريفة، وهذا اليوم لم ير أظلم منه، فكما كان يوم مولده أسعد وأشرق يوم طلعت عليه الشمس، كان يوم وفاته أشد الأيام ظلاما ومصابا على المسلمين والبشرية جمعاء، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "ما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد وصححه الألباني. يقول أبو ذؤيب الهذلي: "قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء، كضجيج الحجيج أهلوا جميعا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقالوا: قبض (مات) رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومما قاله حسان بن ثابت رضي الله عنه في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:

      بأبي وأمي من شهدت وفاته    في يوم الاثنين النبي المهتدى
      فظللت بعد وفاته متبلدا         متلددا يا ليتني لم أولد
      أأقيم بعدك بالمدينة بينهم؟!     يا ليتيي صبحت سم الأسود

اضطرب الصحابة رضوان الله عليهم اضطرابا شديدا لموت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ذهل بعضهم فلا يستطيع التفكير، وقعد بعضهم لا يستطيع القيام، وسكت بعضهم لا يستطيع الكلام، بل وصل الأمر إلى أن أنكر بعضهم موت النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال ابن رجب: "ولما توفي صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل (حبس) لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية".
وظل الصحابة رضوان الله عليهم على هذه الحالة من الاضطراب والحيرة يتمنون صحة كلام عمر رضي الله عنه: "والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم"، حتى جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فعن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح (مسكن زوجته على بعد ميل من المسجد النبوي)، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ـ قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك ـ، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله (بين عينيه)، قال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر:30)، وقال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} (آل عمران:144)، فنشج الناس يبكون) رواه البخاري.
وفي رواية: "وأخبر سعيد بن المسيب أن عمر قال: "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت (دهشت وتحيرت) حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات".
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه، فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها".

رسل الله جميعا عليهم الصلاة والسلام بشر يطرأ عليهم ما يطرأ على البشر من يسر وعسر، ونوم ويقظة، وصحة ومرض، وبلاء وعافية، وحياة وموت، فإذا ما استوفوا آجالهم أمر الله عز وجل ملك الموت بقبض أرواحهم، فيموتون كما يموت سائر البشر، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان واحدا من هؤلاء الرسل، أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ونفى عن نفسه أي صفة من الصفات التي تخرجه عن طور العبودية، فديننا الإسلام دين التوحيد، ونبينا صلى الله عليه وسلم نتقرب إلى الله بحبه واتباعه، قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} (آل عمران:31)، لكننا لا نعبده صلى الله عليه وسلم من دون الله عز وجل.

وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم حرصا شديدا على التفريق بين الألوهية والنبوة، خاصة أن الأمم السابقة قد وقعت في تأليه بعض أنبيائها، فقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، ولا شك أن تأليه الأنبياء لم يكن في حياتهم بل بعد زمنهم، حيث بالغ بعض أتباعهم في حبهم، حتى أوصلوهم إلى الألوهية، وعبدوهم من دون الله، أو أشركوهم في عبادة الله، ومن ثم حذر ونهى صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في مدحه حتى لا يصل المدح إلى نقله من العبودية والبشرية إلى الألوهية، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال:(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تطروني (تجاوزوا في مدحي) كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري.

لقد كان موت النبي صلى الله عليه وسلم مصيبة أخرجت معظم الصحابة عن حكمتهم، ومن المعلوم أنه لا يوجد في المسلمين مسلم يحب النبي صلى الله عليه وسلم كحب أبي بكر الصديق رضي الله عنه له، فهو صاحبه الذي وصفه الله عز وجل بذلك فقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} (التوبة:40)، وهو القائل في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:

     فارتاع قلبي عند ذاك لموته             والعظم مني ما حييت كسير
     يا ليتني من قبل مهلك صاحبي   غيبت في لحد عليه صخور

ومع ذلك فقد ثبته الله عز وجل في هذا الموقف الشديد ـ وبثباته ثبتت الأمة ـ ووقف قائلا في إيمان وثبات وحكمة: "ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".

مات نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه بشر، نعم! إنه بشر، لكنه بشر يوحى إليه، كما قال تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} (الكهف:110)، نعم إنه عبد، كما قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} (الإسراء:1)، لكنه صلوات الله وسلامه عليه أفضل النبيين والمرسلين، وسيد ولد آدم أجمعين، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود, أول من تفتح له أبواب الجنة، وأول من ينال أعلى منازلها، وهو صاحب الشفاعة العظمى، والكوثر، الذي غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي) رواه الترمذي وصححه الألباني.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة