حادثة الإفك، وإحسان الظن بالمؤمنين

0 1444

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حادثة وقصة الإفك، وملخص الحادثة كما وردت في كتب الحديث والسيرة النبوية: أن المنافقين استغلوا حادثة وقعت لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في طريق العودة من غزوة بني المصطلق، حين نزلت من هودجها لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عقدا لها، فرجعت تبحث عنه، وحمل الرجال الهودج ووضعوه على البعير وهم يحسبون أنها فيه، وحين عادت لم تجد الركب، فمكثت مكانها تنتظر أن يعودوا إليها بعد أن يكتشفوا غيابها، وصادف أن مر بها صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، فحملها على بعيره، وأوصلها إلى المدينة.. فاستغل المنافقون هذا الحادث، ونسجوا حوله الإشاعات الباطلة، وتولى ذلك عبد الله بن أبي بن سلول، فاتهمت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإفك، ثم نزل الوحي بعد ذلك مبرئا لها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت براءتها: (أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك) رواه البخاري، فالمبرأة من فوق سبع سموات هي أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما.

وفي حادثة الإفك قال الله تعالى: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم * لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين * لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم * إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم * ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين * ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم * إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم} (النور: 11-20).
قال ابن كثير: "هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية، التي غار الله تعالى لها ولنبيه صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل الله عز وجل براءتها صيانة لعرض الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} أي: جماعة منكم، يعني: ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة، فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فإنه كان يجمعه ويستوشيه، حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين، فتكلموا به، وجوزه آخرون منهم، وبقي الأمر كذلك قريبا من شهر، حتى نزل القرآن، وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة".

إحسان الظن بالمؤمنين: 

من فضل الله تعالى ورحمته أن أظهر براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكشف زيف وبطلان هذا الإفك، وأبقى دروسه وفوائده، لتكون عبرة للمؤمنين في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن هذه الدروس والفوائد: إحسان الظن الذي يقطع الطريق على الشيطان للوقيعة بين المؤمنين، خاصة وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، ولا يكاد يفتر عن التفريق والتحريش بينهم، وقد نهى الله عز وجل عن إساءة الظن، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} (الحجرات:12)، وقال ابن حجر: "عقب تعالى بأمره باجتناب الظن، وعلل ذلك بأن بعض الظن إثم، وهو ما تخيلت وقوعه من غيرك من غير مستند يقيني لك عليه، وقد صمم عليه قلبك، أو تكلم به لسانك من غير مسوغ شرعي".
وفي سياق الآيات التي تحدثت عن حادثة الإفك قال الله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين} (النور:12)، قال ابن عاشور في تفسيره: "فيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في مؤمن، أن يبني الأمر فيها على الظن (اليقين) لا على الشك، ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام، فإذا نسب سوء إلى من عرف بالخير، ظن أن ذلك إفك وبهتان، حتى يتضح البرهان. وفيه تعريض بأن ظن السوء الذي وقع هو من خصال النفاق، التي سرت لبعض المؤمنين عن غرور وقلة بصارة، فكفى بذلك تشنيعا له".

وفي حادثة الإفك ظهرت نماذج من الصحابة رضوان الله عليهم نتعلم منها إحسان الظن، ومنها:

أم مسطح:

لقد أحسنت أم مسطح رضي الله عنها الظن بعائشة رضي الله عنها، بل ودعت على ولدها لمشاركته في هذا الإفك، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (.. أقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا, فعثرت أم مسطح في مرطها, فقالت: تعس مسطح (دعاء عليه بالتعاسة), فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه (يا هذه) أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بخبر أهل الإفك ..) وفي رواية قالت أم مسطح: (والله ما أسبه إلا فيك (بسببك)).
وفي قول أم مسطح: "تعس مسطح" فوائد كثيرة، منها: كراهة الإنسان صاحبه وقريبه إذا آذى أهل الفضل، أو فعل غير ذلك من القبائح، ومنها: حب الصحابيات لعائشة رضي الله عنها ولأمهات المؤمنين وتعظيمهن وتقديمهن على أنفسهن وأولادهن، امتثالا لقوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} (الأحزاب: 6)، مما جعل أم مسطح تدعو على ولدها وهي تعلم أن دعاءها قد يستجاب، وذلك لأنه خاض في عرض العفيفة الطاهرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومنها: فضيلة أهل بدر والدفاع عنهم، كما فعلت عائشة رضي الله عنها في دفاعها عن مسطح لما دعت أمه عليه وقالت لها مستنكرة: (بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا؟).

زينب بنت جحش :

قالت عائشة رضي الله عنها في حديثها عن حادثة الإفك: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري، فقال: يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا، قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع) رواه البخاري، قال ابن حجر: "قولها: "يسأل زينب بنت جحش"، أي أم المؤمنين (زينب)، "أحمي سمعي وبصري"، أي من الحماية، فلا أنسب إليهما ما لم أسمع وأبصر، وقولها: "وهي التي كانت تساميني" أي: تعاليني من السمو، وهو العلو والارتفاع، أي: تطلب من العلو والرفعة والحظوة". وفي هذا الأمر ظهر بوضوح تقوى وورع أم المؤمنين زينب رضي الله عنها من أن تتهم عائشة رضي الله عنها بشيء لم تره عيناها، ولم تسمع به أذناها، وفي ذلك حسن الظن بها.

خادمة أم المؤمنين عائشة:

روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ولقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فسأل جاريتي، فقالت: والله ما علمت عليها عيبا، إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل عجينها ـ أو قالت خميرها ـ فانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أسقطوا لها به، فقالت: سبحان الله! والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر)، فلم تر الخادمة على عائشة رضي الله عنها عيبا، إلا أنها قد تغفل أو تنام عن بعض تدبير أمور البيت من الطبخ والعجن وما أشبه ذلك بسبب صغر سنها.

أسامة بن زيد وأبو أيوب الأنصاري:

استشار النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد في حادثة الإفك، فأثنى على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خيرا، قالت عائشة رضي الله عنها : (فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال: يا رسول الله، أهلك، وما نعلم إلا خيرا) رواه البخاري.
وهذا الذي فعله أيضا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقد قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين} (النور: 12): " هذا تأديب من الله للمؤمنين في قصة عائشة رضي الله عنها، حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السييء وما ذكر من شأن الإفك، فقال: {لولا} بمعنى: هلا {إذ سمعتموه} أي: ذلك الكلام، أي: الذي رميت به أم المؤمنين {ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} أي: قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم، فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى.. وقد قيل: إنها نزلت في أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما، كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار، أن أبا أيوب خالد بن زيد قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك".

لقد عاشت المدينة المنورة وقتا عصيبا لهذا الإفك والبهتان على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حتى أنزل الله عز وجل براءتها، وقد اتفقت الأمة على كفر من اتهم عائشة رضي الله عنها بذلك بعد نزول آيات براءتها. ومما لاشك فيه أن حادثة الإفك مع ما فيها من ألم وابتلاء، كان فيها من الفوائد والدروس الكثير، وكيف لا وقد قال الله تعالى: {لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} (النور:11)، ومن هذه الدروس والفوائد وجوب إحسان الظن بالمؤمنين كما قال تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين} (النور:12)، وهو ما فعله أسامة بن زيد وأبو أيوب الأنصاري، وفعلته أم مسطح وزينب بنت جحش رضي الله عنهم.. ومن ثم فالواجب على المسلم أن يحسن الظن بأخيه المسلم، وأن يدافع عنه في غيابه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ذب (دافع) عن عرض أخيه، رد الله عنه عذاب النار يوم القيامة) رواه الترمذي وصححه الألباني.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة