علاقة السيرة النبوية بالقرآن والسنة

0 1917

السيرة النبوية هي التطبيق العملي للقرآن والسنة، ودراستها تساعد على الفهم الصحيح والدقيق لكتاب الله عز وجل وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أن كثيرا من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية تفسرها وتجليها الأحداث والمواقف التى مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم خلال حياته كلها.

السيرة النبوية والقرآن الكريم:

النبي صلى الله عليه وسلم هو مبلغ الرسالة والدين عن ربه عز وجل، وهو أول وأعظم من فهم القرآن الكريم، كما أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يقدم تفسيره للقرآن الكريم في أقوال منطوقة - أحاديث نبوية - فحسب، ولكنه قدم هذا التفسير من خلال حياته العملية، فكانت مواقفه وحياته ترجمة فعلية للقرآن الكريم، ومن ثم تعد أحداث السيرة النبوية أرضا خصبة للمفسرين، بما توفره من معرفة أسباب نزول الآيات القرآنية، والمواقف التي نزلت فيها، وكيفية تطبيق الصحابة لها، حتى يكاد يستعصي الفهم الصحيح لبعض معاني القرآن الكريم في معزل عن السيرة النبوية المطهرة.

أسباب النزول:

أكد العلماء على الأهمية البالغة لمعرفة سبب نزول الآيات القرآنية، فذلك طريق قوى فى فهم معانى القرآن الكريم، والسيرة النبوية تستعرض لنا أسباب النزول للكثير من الآيات والسور، وتعرفنا المكي والمدني منه، ولا شك أن معرفة أسباب النزول للكثير من الآيات القرآنية ضروري لمن يتصدى لتفسير كلام الله عز وجل، لما هو معلوم من الارتباط بين السبب والمسبب، وهناك الكثير من الآيات القرآنية نزلت في الغزوات والحروب، أو إثر حوادث وقعت، أو أسئلة وجهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت هذه الآيات تحمل الإجابة، أو تبين الحكم والغاية والهدف، كتلك الآيات التي تتكلم عن الغزوات في سورة آل عمران والتوبة والأحزاب والفتح والحشر.
وقد ربط ابن سعد في كتابه "الطبقات" بين كل غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم الكبيرة وما نزل فيها من آيات بينات، فمن ذلك قوله: "غزوة بدر الكبرى: أولى معارك الإسلام الفاصلة، نزل في شأنها سورة الأنفال، كما ذكرت في سورة آل عمران. غزوة بني قينقاع: وهم أول من نكث عهده من قبائل اليهود، نزل في شأنهم آيتان من سورة آل عمران: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد * قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} (آل عمران: 12: 13)، .. غزوة أحد: نزل في شأنها ستون آية من آل عمران.. غزوة حمراء الأسد: التي تعتبر تكملة لغزوة أحد، نزل في شأنها آيات من نفس السورة، الآيات (172 : 175). غزوة بني النضير: نزل فيها سورة الحشر، كما صح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما .. غزوة الخندق: وتسمى غزوة الأحزاب، نزل في شأنها سورة الأحزاب ..".
وقال الواحدي: "لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها"، وقال ابن دقيق العيد: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن"، وقال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب".
وقد ألف ابن حجر كتابا خاصا في أسباب النزول سماه : "العجاب في بيان الأسباب"، وذكر فيه أمثلة كثيرة في أسباب نزول كثير من الآيات القرآنية، ومن ثم فدراسة السيرة النبوية تساعد العلماء على فهم الآيات القرآنية، والاستنباط منها، ومعايشة أحداثها، فيستخرجون أحكامها الشرعية، ويستعينون بها فى تقييد بعض مطلق الآيات القرآنية، أو تخصيص عامها، ويعرفون منها الناسخ والمنسوخ، وهذا أمر هام جدا يترتب عليه كثير من الأحكام الشرعية، ويتبين من خلاله مدى ارتباط القرآن الكريم بالسيرة النبوية.

السيرة والأحاديث النبوية:

لا تقف أهمية السيرة النبوية فى فهم القرآن الكريم فقط، بل تتعدى تلك الأهمية إلى الأحاديث والسنة النبوية، فهناك الكثير من الأحاديث النبوية لا يمكن فهمها فهما صحيحا بمنأى عن السيرة النبوية بما فيها من مواقف وأحداث. فمثلا هناك بعض الأحاديث النبوية التي في ظاهرها شيء من التعارض يجليها ويزيل اللبس منها سيرة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يرد أمر نبوي ولا يعلم هل هذا الأمر على الوجوب، أو على الاستحباب، أو هو منسوخ أم لا؟! وقد يرد نهى نبوي عن أمر ولا يعلم النهى أيضا هل على التحريم أم لا؟! فتأتى السيرة النبوية العطرة فتبين لنا الحكم الصحيح فى المسألة، حيث أن السيرة النبوية يراعى في كتابتها وتدوينها الزمن والتاريخ، بخلاف الكتابة والتدوين للسنة والأحاديث النبوية، ومن هنا كانت أهمية السيرة النبوية فى استنباط الحكم الصحيح من بعض الأحاديث التي في ظاهرها شيء من التعارض.
ومن ذلك ما رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب الرجل قائما، قال قتادة: فقلنا: فالأكل؟ فقال: ذاك أشر أو أخبث)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يشربن أحد منكم قائما، فمن نسي فليستقيء) رواه مسلم، فالظاهر من هذا النهى النبوى أن الشرب من قيام حرام، ولاسيما بعد قوله فى رواية أبى هريرة :(فمن نسى فليستقيء)، فإن ذلك يدل على التشديد فى المنع، والمبالغة فى التحريم، ولكن ورد فى السيرة النبوية من فعله صلى الله عليه وسلم ما يبين حقيقة هذا النهى، وأنه ليس للتحريم، فعن عبد الله بن عباس رضى الله عنه قال: (سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب قائما) رواه مسلم، وروى البخاري عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه: (أتى باب الرحبة (المكان المتسع) بماء فشرب قائما، فقال: إن ناسا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتمونى فعلت)، وعن أنس بن مالك رضى الله عنه: (أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل على أم سليم وفى البيت قربة معلقة فشرب من فيها وهو قائم، قال: فقطعت أم سليم فم القربة فهو عندنا) رواه أحمد. وقطع أم سليم رضي الله عنها لفم القربة، فعلته لوجهين أحدهما: أن تصون موضعا أصابه فم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يبتذل ويمسه كل أحد، والثانى: أن تحفظه للتبرك به والاستشفاء. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما وقاعدا) رواه الترمذى وحسنه الألباني.
فهذه الروايات وغيرها تدل على أن أحاديث النهى عن الشرب قائما تحمل على الاستحباب، والحث على ما هو أولى وأكمل، وليس النهى للتحريم، وقيل في التوفيق بين الروايات: أن النهي محمول على التنزيه، وشربه قائما لبيان الجواز، وقال النووي: "وأما من زعم النسخ أو الضعف فقد غلط غلطا فاحشا، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ، وأنى له بذلك أو إلى القول بالضعف مع صحة الكل، وأما قوله: (فليستقيء) فمحمول على الاستحباب، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب، والله أعلم بالصواب".
وقال ابن حجر: "قال الأثرم: إن ثبتت الكراهة، حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم"، وقال:
 
        إذا رمت تشرب فاقعد         تفز بسنة صفوة أهل الحجاز

        وقد صححوا شربه قائما     ولكنه لبيان الجواز


السيرة النبوية هي التطبيق العملي للكتاب والسنة، ولا يمكننا فهم نصوص الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فهما لغويا مجردا في معزل عن طريقة تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لهما، ومن ثم فالسيرة النبوية ترتبط ارتباطا وثيقا بالقرآن والسنة، ولا غناء للمسلمين عنها وهم يعايشون القرآن الكريم وتفسيره، والأحاديث النبوية وشروحها.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة