- اسم الكاتب:إسلام ويب ( آ. د. عبدالسلام مقبل المجيدي )
- التصنيف:في ظلال آية
آية الصراط المستقيم هي قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة:6]، وهي تقتضي أن يكون من رحمة المسلم بالعالم أن يدعوهم إلى الصراط، ومن رحمة الله بهم أن حماهم من الانحراف أو الانجراف عند السير فيه.. يا لهذا الإعجاز المدهش في الآية..يرجع الطرف عند التأمل كليلا حسيرا ثم يقلب الأمر كرة أخرى فيمتلئ إعجابا وروعة.. وقد تتساءل ما الأمر هنا؟
الأمر أن الله تعالى أراد لنا في هذا السؤال أن نرتقي أربع درجات –رحمة بنا-:
الدرجة الأولى: الاهتداء إلى الصراط ببيانه وبتعريف الله لنا تعرفنا عليه.
الدرجة الثانية: الاهتداء بالوصول إليه وهذه درجة ثانية بعد الأولى.
الدرجة الثالثة: الدخول فيه بعد الوصول إليه.
الدرجة الرابعة: الثبات على ما فيه من سبل السلام ومسالك الاستقامة، وعدم الانحراف عنها، أو الخروج عن الصراط، وذلك يكون بعد الدخول فيه.
وقد جمعت كل هذه المعاني الرائعة في حذف حرف الجر بعد فعل الهداية في هذه الآية: {اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة:6]، فقد تعدى الفعل (اهدنا) بنفسه، والسؤال في الإعجاز البياني التربوي: لماذا (هدى) هنا تعدى بنفسه إلى مفعولين؟
الجواب:
هدى يأتي على ثلاث حالات:
الحالة الأولى: يتعدى بنفسه إلى المفعولين كما في هذه الآية: فالمفعول الأول: (نا)، والثاني: (الصراط).
الحالة الثانية: يتعدى إلى المفعول الثاني وهو المهدى إليه بإلى، ومن ذلك قوله تعالى: {قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة:142]، {وأهديك إلى ربك فتخشى} [النازعات:19]، وفي هذه الحالة فإن المتعدي بـ(إلى) يستعمل لمن لم يكن سائرا في الطريق فدل عليه فقط؛ فالأصل أن (إلى) لانتهاء الغاية المكانية والزمانية في مثل هذه الأحوال، فهو يصل إلى بوابة الطريق، ويحتاج بعد ذلك إلى هداية تالية بعد وصوله إليه ليدخل ويثبت ويستمر عليه، ويأخذ بأحسن أجزائه ، وأفضل نظمه ومواضعه، ولذلك يأتي فعل الهداية متعديا بـ(إلى) إذا أريد التعريف المجمل بصراط الإسلام مقابل مناهج الشرك والضلال، فقوله –تعالى ذكره- {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا} [الأنعام:161] أتى (هدى) متعديا بـ(إلى) ردا على المشركين الذين انحرفوا عن ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى كأنهم لم يروها ولم يصلوا إليها، وفي الوقت ذاته يعتز النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه هو الذي اهتدى إلى ذلك الصراط.
الحالة الثالثة: يتعدى إلى المفعول الثاني وهو المهدى إليه باللام، ومن ذلك قوله تعالى: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} [البقرة:213]، {الحمد لله الذي هدانا لهذا} [الأعراف:43]، {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء:9]، وأما المتعدي باللام: فيستعمل في الوصول كذلك ودخول الجنة، أو الاستمساك بالمهدي له كالوصول إلى الأقوم والتمسك به.
فاستبان لنا أن الأعلى رتبة من الحالات الثلاث هو المتعدي بنفسه حيث يستعمل في الهداية لمن لم يكن في الطريق ليحدث له الأمور الأربعة: معرفة الطريق، الوصول إليه، دخوله، الثبات فيه، والتوفيق لسلوك أفضل خصاله، وأجمل أجزاء كماله، وهو الذي هدف إليه المتنافسون على الخيرات، واختار الله لهم أن يرددوه في سورة (الفاتحة) لتتحقق لهم الأمور الأربعة، فلذا لم يعده باللام ولا بإلى، فقال: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة:6].
بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعنى الصراط بأتم لفظ، وأجمل رسم:
المراد من هذه الآية العظيمة {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة:7] التزام صراط الله المستقيم، واجتناب طرق المغضوب عليهم والضالين، وقد صور النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك تصويرا محسوسا رائعا بأبلغ لفظ، وأبين تمثيل في حديثين يبينان الجمال في المقال، وتقريب المعاني للفكر والحس والتصور والخيال:
الحديث الأول: بلغ فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم غاية قصوى في بيان طريق الإسلام وغايته في الرحمة بالخلق والعواصم المبثوثة فيه لمنع الانحراف أثناء المسير فقد روى أحمد -بسند حسن- عن النواس بن سمعان الأنصاري –رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا، ولا تتفرجوا- أو قال: ولا تعوجوا-، وداع يدعو من جوف الصراط فإذا أراد يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك، لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله عز وجل، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم)).
فانظر كيف يصور النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماهية الصراط وحقيقته، وكونه نصب لإنقاذ البشرية، وكيف يظهر حدب القائمين على الصراط على الإنسانية يدعونهم إلى سلوك سبيل السلامة بالدخول في الصراط، وانظر كيف صور حال الداخلين فيه السائرين عليه وقد حماهم بأنواع من الحماية من أن تجرهم أنفسهم لمغادرته، أو تجاوز حدود السلامة فيه فتخطفهم الطير أو تهوي بهم رياح الأهواء والمعاصي والبدع في مكان سحيق.. أفلا ترى الدعاية العظيمة أمام الصراط للبشرية بدعوتهم للدخول؟.. أما ترى الحراسة القوية الفخيمة داخل الصراط لهم لئلا ينحرفوا؟.. وانظر كيف ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم العواصم من الانحرافات الداخلية التي قد تأخذ بالمرء بعيدا عن جسر السلامة، وصراط الاستقامة.
الحديث الثاني: يضع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم صورة رائعة للصراط المستقيم، وللاستقامة عليه، والحذر من الاعتداءات الخارجية عنه لجر من يسير عليه إلى الطرق المضلة، وهذا الحديث رواه أحمد –بسند حسن- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطا بيده، ثم قال: ((هذا سبيل الله مستقيما)). قال: ثم خط عن يمينه وشماله (خطوطا)، ثم قال: ((هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه))، ثم قرأ. {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} [الأنعام :153].