نشاط الوراقة والمكتبات في عصر المماليك

0 1223

الوراقة حرفة كانت شائعة في أوساط المتعلمين إبان عصور ازدهار الثقافة الإسلامية في مراكز الإشعاع الحضاري في الوطن الإسلامي كله، وهي صناعة تشتمل على أعمال النسخ والتصحيح والتجليد والتصوير والخط والتذهيب وتزويق الكتب وبيع الورق والأحبار وسائر أدوات الكتابة وما يتعلق بالعناية بالكتب

ودولة المماليك هي حكومة عسكرية سيطرت على مراكز النفوذ والخلافة في مشرق العالم الإسلامي لفترة من الزمان استمرت أكثر من قرنين ونصف القرن، وتحديدا في الفترة ما بين 648 - 923هـ، حيث امتد سلطانها من مصر إلى الشام والعراق وأجزاء من الجزيرة العربية وجنوبي آسيا الصغرى (تركيا الآن)

ونظرا للشجاعة الفريدة والبسالة التي تميز بها المماليك فقد ساهموا بدور هام في التاريخ الإسلامي؛ حيث صدوا الزحف المغولي في معركة عين جالوت، وطويت على أيديهم آخر صفحات الغزو الصليبي عام 690هـ الذي استمر لقرنين من الزمان، وكان لهم دور هام في النهضة العمرانية  والعسكرية في العالم الإسلامي، وسيتناول هذا المقال أبعاد النهضة الثقافية إبان هذا العصر المفصلي من عصور التاريخ الإسلامي في بعدين اثنين؛ وهما: انتشار المكتبات العامة وخزائن الكتب، وازدهار حرفة الوراقة.

انتشرت المكتبات في العهد المملوكي بشكل لم يسبق له مثيل في ما سبق ذلك من عهود، فلم تكن في مصر والشام مدرسة إلا وألحقت بها مكتبة عامة بل ولا مسجد إلا ويشتمل على دار للكتب، وكان لكل مكتبة خازن "أمين مكتبة" وكانت العادة في هذا الخازن أن يكون عالما أو فقيها، وليس أدل على ذلك من أن الحافظ ابن حجر العسقلاني كان خازن المكتبة المحمودية إلى أن توفي عام 852هـ، وكان شمس الدين محمد بن سعد السيرامي خازنا للمكتبة الشيخونية  ، وبلغ من انتشار المكتبات الوقفية في ذلك العصر أن أبا حيان النحوي كان يعيب على من يشتري الكتب ويقول: " الله يرزقك عقلا تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف "،

وللدلالة على ضخامة عدد المكتبات الوقفية وشيوعها وتميزها في هذا العصر يتحدث المقريزي عن مدارس هذا العصر باستفاضة ولكنه يتوقف عند واحدة منها وهي المدرسة المحمودية واصفا محتوياتها فيقول: " فيها خزانة كتب لا يعرف اليوم بديار مصر ولا الشام مثلها، وهي باقية إلى اليوم لا يخرج لأحد منها كتاب إلا أن يكون في المدرسة، وبهذه الخزانة كتب الإسلام من كل فن، وهذه المدرسة من أحسن مدارس مصر"،  المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (4/ 251)، ومن هذا النص نستنتج أن المكتبات في عصر المماليك عرفت نظام الأرشفة والتنسيق وتوزيع الكتب على الفنون وضبط نظام الاستعارة فيها، واحتوائها على نفائس الذخائر التي امتازت بها عن جميع المكتبات المعاصرة لها.

وقد اعتنى الأمراء والأعيان في ذلك العصر بالكتب عناية فائقة، وتنافسوا في ادخارها، واقتناء النفائس منها، وقد كانت المبالغة في العناية الفائقة باقتناء الكتب في هذا العصر وتزويقها وتحسين تغليفها وعمل خزانات جميلة لحفظها نابعة من أسباب عدة: من أهمها الغرام العلمي والشغف بنوادر الكتب والمخطوطات الذي كان يتربع في قلوب كثير من رموز المجتمع، ومنها التحلي بالمكتبات وجعلها زينة للبيوت ووسيلة احترام ووجاهة عند أهل العلم الذين يستعيرون من الكتب ما تمس إليه حاجتهم وتقصر أيديهم عن شرائه، ومنها الاعتقاد – الذي كان سائدا بين كثير من الناس في ذلك العصر - أن اقتناء الكتب يورث الغنى.
ونتيجة للاهتمام بالكتب ازدهرت حرفة الوراقة ازدهارا لا مثيل له في هذا القرن حتى أصبحت مصدرا رئيسا للكسب والعيش ليس لعامة الناس فقط وإنما للعلماء والشعراء أيضا، قال العكبري: كسبت في الوراقة خمسة وعشرين ألف درهم راضية، وكنت أشتري كاغدا – يعني ورقا - بخمسة دراهم فأكتب فيه ديوان المتنبي في ثلاث ليال وأبيعه بمائتي درهم وأقله بمائة وخمسين درهما، [المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي (15/ 257)].

مراحل تاريخية
ويرى مؤرخوا الوراقة أن هذا الفن تطور مع الزمن وتميز وتمايز حيث مر بثلاث مراحل تاريخية، وهي:
المرحلة الأولى: ظهور مجالس الإملاء حين كان الشيخ يلقي محاضرته، ويبدأ "الوراقون - النساخ " بكتابتها مباشرة عنه، وكان هؤلاء يسمون "المستملون " ومفردها مستملي، والناتج يسمى "أمالي"، ومن أشهرها "أمالي أبي علي القالي"، و"أمالي ابن الشجري" وغيره .

المرحلة الثانية: مرحلة "النسخ والمقابلة" حينما  أصبحت مهنة الوراقة تتطلب المطابقة الحقيقية على أصل المخطوط، وبمصادقة المؤلف والقراءة عليه، فصلا فصلا، وعند الانتهاء من ذلك، تؤخذ موافقته العلنية وأمام الناس وداخل المسجد، ويكلف شخصا أو أشخاصا محددين، يسميهم المؤلف ويعطيهم " الإجازة " ويشهد الناس عليه بذلك .

المرحلة الثالثة: مرحلة التخصص بالوراقة وهي المرحلة الأكثر نضجا، في العملية الإبداعية للوراقين، فقد أصبح الوراق الناسخ، يتخصص بفن من الفنون، وينسخ به فقط، كالشعر أو النثر أو اللغة أو الحديث النبوي، أو التاريخ أو غيرها .

ويبدوا أن مرحلة النضج هذه كانت في عصر المماليك ففي وقت مبكر منه أنشئت السوق الخاصة بالكتبيين والوراقة، فقد ذكر المقريزي: في حوادث سنة 681 هـ أنه وقعت نار بدمشق أقامت ثلاثة أيام فاحترق فيها شيء كثير منها سوق الكتبيين، واحترق لشمس الدين إبراهيم الجزري الكتبي خمسة عشر ألف مجلد سوي الكراريس، [السلوك لمعرفة دول الملوك (2/ 163)]، ويتحدث المقريزي في كتاب له آخر عن ما كان يعرف في عصره بـ"حارة الوراقين" كعلامة دالة على شيوع هذه الحرفة في هذا العصر ونشوء قرى صناعية كاملة تحترف هذه المهنة وتقتات من امتهانها .

ونتيجة لكل ما سبق فقد كثرة المؤلفات والعلماء في هذا العصر حتى إن كثيرا – وربما أكثر – العلماء الموسوعيين الذين نعتمد على مؤلفاتهم وتراثهم العلمي اليوم هم من خريجوا هذا العصر؛ كابن منظور والنووي وابن تيمية وأبي حيان والذهبي وابن القيم وابن حجر والسيوطي وغيرهم، كما يلاحظ الدارس لهذا العصر كثرة المؤلفات فيه من كتب ورسائل في مختلف الفنون العلمية، ومما يدل على ذلك، أنك تقرأ في تراجم بعض العلماء في ذلك العصر أن أحدهم ألف مئات الكتب، فمثلا الحافظ الذهبي - تلميذ شيخ الإسلام - عد له الدكتور بشار عواد معروف مائتين وخمسة عشر مؤلفا ومختصرا وتخريجا وذكرها بأساميها وأماكن وجودها وبسط الحديث عنها في كتابه: [الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام (ص 276 -139)]، والحافظ ابن حجر العسقلاني ت 852 هـ زادت مصنفاته على مائة وخمسين مصنفا، أما الإمام الحافظ عمر بن علي بن الملقن فقد بلغت مؤلفاته نحو 300 مصنف، بل إن غالب سلاطين المماليك كانوا ذوي ثقافة عالية، شغوفون بمجالس الأدب والعلم ومنهم من كان لغويا ومنهم من كان مؤرخا ومنهم من كان عالما؛ فقد كان للسلطان الغوري ديوان شعر وضع عليه السيوطي شرحا سماه: (النفخ الظريف على الموشح الشريف)، وقد كان السلطان "قايتباي" يثير في اجتماعه مع العلماء والفقهاء المسائل العلمية فمن ذلك ما ذكره ابن إياس عند كلامه عن حوادث سنة 899هـ قال : " فيها في المحرم صعد القضاة إلى القلعة للتهنئة بالعام الجديد، وصعد الشيخ جلال الدين السيوطي فلما جلس سأله السلطان : أي سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها؟ فلم يجبه الشيخ جلال الدين بشيء عن ذلك مع غزارة علمه وقوة اطلاعه، وكان السلطان عنده كتاب يسمى (حيرة العلماء) "، أيضا كان للسلطان الغوري مجلس علمي مع العلماء مرتين في كل أسبوع، وقد اتجه قسم من السلاطين بعد عزلهم للعلم، فاشتغلوا به، من ذلك مثلا أن السيوطي قال عند ترجمته للملك يوسف بن برسباي: ثم خلع وسجن بالإسكندرية ونظر في فنون العلم والأدب، [نظم العقيان، ص 179]، وقال أيضا في ترجمته للملك أحمد بن إينال العلائي: " ثم خلع ... ونقل إلى الإسكندرية واشتغل بالعلم مدة إقامته بها "، [نظم العقيان، ص 40] .
ويعلل السيوطي سبب هذا الازدهار العلمي بأن مصر – التي هي عاصمة المماليك - أصبحت أرض الخلافة ومستقر العلماء إذ يقول : " مصر من حيث صارت دار الخلافة، عظم أمرها، وكثرة شعائر الإسلام فيها، وعلت فيها السنة وعفت منها البدعة وصارت سكنى العلماء ومحط رحال الفضلاء " .
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة