الفرار من الفتن

0 1191

من أعلام نبوته وآيات صدقه - صلوات الله وسلامه عليه - ما قص الله على أمته، مما كان ومما هو كائن إلى يوم القيامة؛ من أحداث الزمن، وطغيان الفتن، واختلاف الأمة، وأشراط الساعة، إلى غير أولئك من أنباء الغيب، التي لا مطمع فيها، ولا سبيل إليها، إلا بوحي من قبل العزيز الحكيم.

ومن هذا ما رواه البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه؛ فمن وجد فيها ملجأ أو معاذا، فليعذ به][رواه البخاري ومسلم].
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن] (رواه الشيخان).

المفردات:
الفتنة: للفتنة في لسان العرب معان، منها: المحنة، والعذاب، والفضيحة، والتفرق في الآراء والأهواء، وما يعقب ذلك من هرج ومرج.
وجماع معنى الفتنة: الابتلاء، والامتحان، والاختبار؛ من الفتن، وهو إدخال الذهب في النار؛ لتظهر جودته من رداءته.
من تشرف لها؛ أي: من تطلع إليها وتصدى لها، تصدت له، ومن غالبها غالبته فأهلكته.
والملجأ والمعاذ والعياذ واحد، وهو الحصن، وعاذ به يعوذ، واستعاذ به: لجأ إليه.
يوشك: يقرب، وشعف الجبال: رؤوسها وأعاليها، واحدتها: شعفة.
مواقع القطر: مساقط المطر، والمراد الأودية والمراعي.

قبس من حكمة الله في الفتن:
وإذا تنزه حكم الله - سبحانه - عن العبث، فقد يكون من الحكمة فيما أصاب المسلمين من ضروب الفتن الشعواء، التي قطعتهم أحزابا وشيعا، وكادت تحصد الأخلاق وتحلق الدين - أن يميز الله الخبيث من الطيب، ويجزي كلا من الصادق والكاذب؛ فإن الدين لغو على ألسنة الناس ما درت عليهم الأرزاق، وسبغت عليهم العافية؛ فإذا جد الجد، قل الديانون؛ {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}[العنكبوت: 2، 3].

وحكمة أخرى، وهي العظة والاعتبار بما يصيب الدولة القوية - بل الضعيفة - إذا تقسمتها الأهواء، ودب فيها دبيب الفرقة والاختلاف.

وأخلق بنا - في هذا المقام - أن نتأمل مليا في ذرائع الفتن وبذورها؛ من الغيبة، والنميمة، والتجسس، والتكالب على الدنيا، إلى أمثال هذه المنكرات التي تهيج النفوس، وتزرع فيها العداوة والبغضاء، وأن نتأمل كذلك مليا في تحذيره البليغ - صلوات الله وسلامه عليه - من الفتن، ودعوته إلى الفرار منها، فضلا عن مخالطتها والتقحم فيها.

أحوال الناس في الفتن:
والناس في الفتن على أحوال شتى؛ شرهم من ينفخ شررها، ويضرم نارها، ويوقظ نائمها، وأهون منه من يخالطها ويهواها ويعين عليها، وخير من هذا من يقعد بعيدا عنها، غير متدنس بدنسها، ولا متلطخ بآثامها؛ مثله فيها: كمثل ابن اللبون؛ لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب؛ فإن خشي أن تهب عليه عاصفتها، كان أشد الناس فرارا منها، ولو أن يأوي إلى رأس جبل، أو أن يعض بجذع شجرة، وحسبه من القوت ما سد الجوعة، ومن اللباس ما وارى العورة!

موقف السلف من الفتن:
على أن فضل الفرار من الفتن إنما هو للعاجز الذي لا يملك فيها حولا ولا قوة؛ أما من ظن بنفسه قدرة على إخمادها أو تسكينها، أو التقليم من أظفارها، فليقم لما أعده الله له؛ فإن الله مبتليه بذلك، وسائله عما مكن له. ومن هنا نستطيع أن نفسر بعض التفسير موقف السلف من الفتن التي مني بها المسلمون في العهد الأول، فاعتزلها قوم، ودفعها - أو حاول – آخرون.

أي الأمرين أفضل: العزلة، أم الخلطة؟
ويستدل بهذين الحديثين وما في معناهما من يرجح العزلة ويدعو إليها، وترجيح العزلة على المخالطة، أو العكس، من مهمات المسائل التي تناولتها بحوث العلماء قديما وحديثا، وأوفتها حقها درسا وتمحيصا، حتى اختصها الإمام الغزالي - رحمه الله - بكتاب من "إحياء علوم الدين"[انظر الإحياء "كتاب العزلة": 2/222ـ241].

وجملة القول: أن فريقا من الناس يؤثرون العزلة؛ لأنها أسلم للدين، وأدعى للأنس بالله - عز وجل - ولو لم يكن فيها إلا الخلاص من الغيبة التي أضحت فكاهة المجالس، لكفى، ومن هؤلاء سفيان الثوري، والفضيل بن عياض، وأكثر العباد والزهاد.

وآخرون يؤثرون الخلطة؛ لما فيها من العلم والتعلم، والنفع والانتفاع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وتحقيق المثل العليا لخير أمة أخرجت للناس، ومن هؤلاء سعيد بن المسيب، والشعبي، وابن المبارك، والشافعي، وابن حنبل، وأكثر التابعين.

وفصل الخطاب: أن لكل من العزلة والاجتماع كثيرا من الآفات، مع ما في كل من المنفعة، وأن كلا منهما يختلف باختلاف أحوال الناس والأحوال والأوقات؛ وليس أجمل ولا أعدل من الاعتدال، في عامة الأحوال.

فليأخذ المرء بحظه من الأمرين جميعا، في رشد وسداد، وبصيرة وجهاد، فإذا ما تموجت الفتن، وعمت الأهواء، ولم يجد ملجأ إلا الفرار، فليسعه بيته، وليبك على خطيئته، وليعذ بالله خير معاذ.

ولن يكون ذلك إلا بعد أن يذهب الصالحون تباعا، وتبقى حفالة (أي حثالة) كحفالة الشعير أو التمر، لا يباليهم الله بالة (أي: لا يرفع لهم قدرا، ولا يقيم لهم وزنا)، فالحق الذي تهدي إليه معالم السنة أن شرائط العزلة لم تكتمل كلها بعد، وإن عست أن تكون قريبا.

وما لم تتم شرائط العزلة كلها، فهروب المرء أو قبوعه في كسر بيته - لا سيما أهل الدعوة إلى الله تعالى - جبن، أو رهبانية، وليس الجبن من صفات المتقين، وليست الرهبانية في شيء من هذا الدين، وإنما كانت سائغة في الأمم السابقة، بل كانت قربة إلى الله تعالى ووسيلة إلى رضوانه، أما هذه الأمة، فرهبانيتها -كما روى الإمام أحمد وغيره - الجهاد في سبيل الله - عز وجل.

الفتن ضروب شتى:
وبعد، فيومئ الحديثان إلى ما استفاض في السنة، من أن الفتن ضروب شتى؛ منها العام والخاص، ومنها الشديد العظيم والهين اليسير، ومنها المعين المباغت، وبين يدي الساعة تصطخب وتضطرم، ويكسع بعضها بعضا (أي يتبع بعضها بعضا)، ويركب بعضها أعناق بعض.

والمؤمن الكيس من أعد للفتن عدته، وبادرها بالصالحات قبل أن تبغته؛ فقد روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا](رواه مسلم).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طه الساكت "مجلة الأزهر العدد الثاني"
بتصرف يسير

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة