الكاهن الأعظم!

0 1539

(الكاهن الأعظم)...هكذا يطلقون عليه في الهند، وهكذا يفضل ممارس اليوجا الشهير، والذي استطاع أن يستغل حاجات الناس وآلامهم وآمالهم، ليتسلق على ظهورهم ويتخذهم سلما نحو الثراء.

(اتشاريا ساتاناندا) Acharya Satyananda هو اسم لشخصية تلفازية ذائعة الصيت وقادرة على نيل الإعجاب عند طبقة العوام التي تتأثر بمعسول الكلام، والذي استغل منبره الإعلامي ليطلق ادعاءات واسعة تخيل للمستمع البسيط وجود قدرات واسعة لصاحبها.
ثمة مصطلح يدندن حوله المشتغلون باليوجا، وهو مصطلح طاقة البرانا Prana وهي كلمة سنسكراتية هندية قديمة ومعناها "طاقة الحياة"، وهي كما يقولون مجموعة من الطاقات الكونية التي تنبع من عناصر الطبيعة كالماء والهواء والنار وغير ذلك، ليصنع منها (اتشاريا) كذبته الكبرى بأن له القدرة على مغادرة حسه وعقله فيجمع القوى الكهرومغناطيسية الموجودة في الكون ومن خلالها يحصل على الطاقة التي تمكنه من قراءة أفكار الناس والتحكم فيها، بل زاد تبجحه وكذبه ليدعي القدرة على التحكم بستة آلاف شخص في ذات الوقت!

وشيئا فشيئا بدأ صيته يذيع واسمه يتردد على ألسنة الفقراء والبسطاء من عامة الناس في الهند، فبدؤوا بالتوافد عليه من شتى البقاع ومختلف القرى علهم يجدون عنده حلا لمشاكلهم، واستشرافا لمستقبلهم، وإضاءة نصح يستخلصونها من كاهنهم، كيف لا وهو الرجل الذي استطاع أن يستجمع قوى الطبيعة حتى اكتسب -في نظرهم القاصر- قوة من قوى الآلهة، تعالى الله عما يشركون .

وهكذا كان تركيز (ستاناندا) على الطبقة الفقيرة باعتبارهم كنزا لا ينضب من المال على قاعدة: "السيل يأتي من قطرة"، ومنجما للجهل يسمح له بالضحك عليهم واصطياد أموالهم، مستعينا في ذلك بسياسة الضرب على وتر الخوف واستغلال الجهل، وبسرعة هائلة، تربع المحتال على عروش الطبقة الثرية، وصار يتكلم بلغة الملايين، والكاميرات تصوره وهو ينتقل من مدينة إلى أخرى، بل من دولة إلى دولة، يلقي كلمة هنا، ويحضر اجتماعا هناك، ويمد يده للمساعدة كما يقول، بل إنه بنى مركزا كاملا لصيانة الطائرات، وبشر ببناء معهد للهندسة هو الأكبر من نوعه في الهند.

وفي هذه القصة يبرز لدينا اسم آخر يوازي اسم الكاهن ويضاده، وهو الأستاذ (برابير جوش) Prabir Gosh أحد أشهر النقاد والكارهين لمنتقدي هؤلاء المدعين للقوى الخارقة والادعاءات الباطلة، ليس مسلما بالطبع، لكن عقله وضميره يأبيان أن يريا هؤلاء المدعين وهم يمتصون دماء وأموال الضعفة والمساكين، فأخذ على عاتقه رسالة جعلها نصب عينيه، وهي أن يقضي عمره في كشف ألاعيب وحيل الدجالين في طول البلاد وعرضها، ولقد كلفه ذلك الكثير وتعرض للضرب أكثر من مرة.
كان من الطبيعي أن يتصدر اسم (اتشاريا) قائمة المطلوبين لدى الأستاذ، لكنها لم تكن مهمة سهلة أبدا، خصوصا وأن الكاهن قد استطاع أن يكون له امبراطورية كبيرة يصعب اختراقها فضلا عن إسقاطها، فليس الحديث عن ساحر يعزف على الناي أو يمشي على الجمر ممن يسهل كشفه أمام العشرات المتجمهرين، ولكن الأمر يتعلق بشخصية نافذة في المجتمع لها حضورها الكبير في الإعلام.

وبعد دراسة ومشاورات طويلة تم التوصل إلى خطة محكمة للإطاحة به، وذلك بتوثيق كذبه وافتراءاته إعلاميا بالتعاون مع إحدى الشركات المتخصصة في مجال التوثيق، وهكذا تم تشكيل عدة فرق ادعت أنها من العائلة نفسها وهم ليسوا كذلك، وكل فريق سيقوم بزيارته بنفسه ليعرض عليه مشكلته، ثم سيظهر بعدها إن كان هذا الكاهن ستساعده قوى الطبيعة المزعومة في اكتشاف كذبهم.

وهكذا توافدت الفرق على الكاهن وكل منها يحمل قصة مغايرة ومشكلة مختلفة، لتأتي المفاجأة أن التشخيص وإن تعدد فالعلاج واحد: تعويذة ثمينة يطلب من صاحبها أن يحملها معه أينما كان، وتكاليف العلاج أو الجلسة الاستشارية حوالي مائة دولار، وهذا ثمن باهض يعدل مرتب العامل المتوسط في الهند شهرين كاملين.

وبعد اكتمال الخطة، صعد الجميع إلى مكتب الكاهن، يتقدمهم "جوش" برفقة الكاميرات السرية، ليكون أول سؤال يسأله الكاهن لجوش: مرحبا هل سبق أن تقابلنا؟! أي أن الكاهن وحتى آخر لحظة لم يكن لديه أي علم بالخدعة التي سقط في فخها، ثم حانت لحظة مواجهته بالحقائق، وكشف تفاصيل الخدعة والتهديد بفضحه على رؤوس الأشهاد.

وكما كان متوقعا: لم تكن ردة فعل الكاهن تتصف بالتهذيب! كان هناك الكثير من الاعتداء والضرب والطرد، بل والاختطاف والاحتجاز لمصور أوروبي نجح رجال الشرطة في تخليصه، ثم في لقاء تلفزيوني يلي هذه الحادثة أطلق الكاهن نداء لأتباعه تدعوهم لقتل "جوش"، وكان ذلك التهديد المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية التي بناها (اتشاريا) فإن الحكومة لم تتسامح مع مثل هذا التهديد العلني الذي رآه الملايين، وانتهت قصة الكاهن بإيداعه للسجن.

تلك قصة واحدة من قصص الكهنة المعاصرين، تبين الحال التي وصلت إليها الكهانة المعاصرة، وإن لم يكن فيها جديد من حيث المبدأ، فكاهن الأمس وكاهن اليوم اتفقا على أصل الباعث لكهانتهم: وهي أكل أموال الناس بالباطل، والمتاجرة بآلام المساكين والاستخفاف بعقولهم، واتخاذ دين الله لهوا ولعبا، وهذا ما يظهر عظمة الأنبياء في المقابل، فإنهم لم يسألوا الناس شيئا من أموالهم، وقد اتفقت كلماتهم عن دعوة أقوامهم: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين} (الشعراء:145)، فلا أجر يراد من دعوة الناس بل هو خالص لوجه الله تعالى. أين هذا من الكهنة والعرافين الذين يتاجرون بحاجات الناس؟

وثمة درس آخر نستلهمه من هذه القصة، وهي أن أهل الكفر وإن كانوا قد اشتركوا في أصله إلا أنهم درجات، فالأستاذ الذي تصدى للكاهن لا يدين بالعقائد السماوية كلها، ومع ذلك لم يرض بأمثال هؤلاء المخادعين والكاذبين، فالباطل ليس على درجة واحدة، ولذلك يمكن استغلال مواقف هؤلاء المنصفين في بعض المجالات في دعوة أقوامهم، لأنها شاهدة من الداخل فلها من التأثير ما ليس لغيرها، ومثال ذلك: الاستفادة من نقد بعض اللادينيين للإلحاد، والاستعانة بأقوال بعض علماء الطبيعة المتخصصين لنظرية دارون ممن لا يدين بالإسلام.

والرسالة الأخيرة التي تقال هنا، هو تذكير المسلمين الذين قد تسول لهم أنفسهم بالذهاب للكهنة والعرافين، بأن خير من تلجأ إليه هو القوي المتين، سبحانه وتعالى، كما جاء في الوصية النبوية: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) رواه مسلم.

*مصادر القصة: قناة ناشيونال جيوجرافيك، ومجموعة من مواقع الشبكة العنكبوتية
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة