- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:الإعلام
الصحافة هي الطور الأولي من أطوار الإعلام، فهي من أعرق وسائل الإعلام على الإطلاق، وليست المنظومة الصحفية مقصورة على نقل الأخبار فحسب، بل هي فن يحتاج لحبكة إعلامية وتحليل عميق وأسلوب أدبي رشيق وثقافة رصينة .. فيما يعرف بـ الفن الصحفي.
فالتقرير الصحفي الجيد –على سبيل المثال- هو في جوهره عملية خلق وابتكار، وهو كذلك كشف للمتناقضات التي توجد بين الصورة الظاهرية والواقع الفعلي، ولاشك أن الخدع والمغالطات التي تكتشف، كثيرا ما تؤدي إلى عملية جلاء وغربلة للقيم السائدة في المجتمع، ولكن ذلك يتطلب بطبيعة الحال نظرة جريئة وتعبيرا موضوعيا.
والفن الصحفي على النقيض من الفن الأدبي، لأنه تعبير موضوعي، وابتعاد تام عن الذاتية التي يتصف بها الأديب .. فالأديب يعني بنفسه، ويقدم لنا ما يجول بخاطره، ويسجل ما يراه وفقا لرؤيته الخاصة، وبرموز وإشارات تنم عن ثقافته وتجاربه وعقليته.
أما الصحفي فهو ملتزم بالموضوعية والحدث توصيفا وتحليلا، ومعني بنقل الخبر إلى الجمهور أكثر من الاهتمام بوصف مشاعره ونظرته الخاصة للموضوع .. إن الصحفي فنان موضوعي يقدر الواقع ويرصده بصدق وأمانة واحترافية، أن ركيزة الصحافة قائمة على الوقائع المشاهدة، وتنأى عن المبالغات والتهاويل.
وقد يصل الفن الصحفي في موضوعيته إلى إغفال اسم الكاتب الصحفي نفسه إغفالا متعمدا، لأن المهم هو التصوير الموضوعي للواقع، وليس التعبير الذاتي عن الكاتب، أو ربما لأن العمل الصحفي منوط بفريق عمل وليس حكرا على أحد من أسرة التحرير، وهذا ما تجسد بجلاء في سياسة جريدة الإيكونوميست العريقة، حيث لا تضع على مختلف موادها أيا من أسماء هيئة التحرير.
ومن المعترف به -دون شك - أن هذه الجريدة تعد بشكل أو بآخر من أرقى الصحف العالمية، إذ تتسم مواضيعها بسعة اطلاع فائقة وشمولية في التناول وعمق في التحليل، ونادرا ما يحتاج القارئ إلى قراءة إضافية عن موضوع تتناوله المجلة، كبر أم صغر، إلا من باب القراءة في وجهات نظر أخرى.
واللافت فيها أن مستوى وأسلوب التناول هو واحد عبر صفحات المجلة من الغلاف إلى الغلاف. لكن على الرغم من ذلك، لا يشعر القارئ أن هناك كاتبا واحدا يكتب جميع المقالات بتاتا. فأنت أمام حالة أخرى من الذكاء في صياغة العناوين ومن خصائصها، ومن أسلوب بداية المواضيع كذلك.
لكن على الرغم من كل هذا فليست هناك أي سمة من سمات الأسلوب الشخصي، كالذي يعرف به كثير من كتاب الصحافة على أنواعها. مما يدفع القارئ المحتار إلى أن يستنتج أنه بغض النظر عمن يكون قد كتب الصيغة الأولى من أي مقال، فإن المقالات جميعها تمر عبر مطابخ وأفران تحرير المجلة، فتعاد صياغتها وتزال منها الشوائب والبقايا، فتطحن وتصهر وتخبز وتخرج بحلتها الأخيرة في حلة ترتقي إلى تراث صحفي عريق تستكمل إلمام المقال بالموضوع من جميع جوانبه، كما ترضي إدارة التحرير.
وهذا نمط جديد وغير معهود في الصحافة لكن لاشك أنه نوع من الإبداع في العمل الصحفي لا ينكره أحد، خاصة مع ندرة المواهب الصحفية وقلة صبر معظم العاملين بالصحافة اليوم على مشقة التبحر في العلوم والفنون، على عكس الماضي الذي كان غالب رؤساء تحرير الصحف من جهابذة العلماء الذين لهم دراسات ومؤلفات ودواوين وترجمات .. فيهم علماء ومفكرون ووزراء وأدباء وشعراء، ويجيدون بعض اللغات الأجنبية ويترجمون عنها، ونال عدد منهم جائزة دولته التقديرية في الأدب، وكان لبعضهم جهد كبير في إنشاء النوادي الأدبية والصالونات الثقافية.
الصحافة الصفراء
والصحافة مثلها مثل أي رسالة إعلامية منها النافع المفيد ومنها الضار الخبيث، فمن الصحف من يجسد هوية الأمة ويخدم قيمها وعقيدتها ومبادئها، ومنها ما يعرف بالصحافة الصفراء التي تهتم بنشر أخبار الجريمة والعنف والجنس والإثارة .. دونما نظر لخطورة تأثيرها على وجدان الأمة ونفسية الجماهير.
يذكر أن الجريدة تعني لغويا: الصحف المكتوبة، وهي بالتالي تعتمد على أقلام محرريها بالدرجة الأولى، ذاك القلم الذي ارتقى به أقوام، وسبق أعلام، وفاز كرام، واهتدى ضال، وتاب مذنب، وندم مسرف على نفسه! وكم بالقلم حدث نقيض، وجرى ضد؛ فهبط فئام، وتخلف أقزام، وخسر لئام، وكم ضل بالقلم من شريف، وزل من عفيف.
ومن أخبث أنواع التحقيقات الصحفية ما يسمى بـ تحقيق الهروب، حيث يصنف هذا النوع بأنه من أخطر أنواع التحقيقات الصحفية، حيث يتم الاعتماد عليه في إلهاء الناس وإبعادهم عن التفكير في مشاكلهم الرئيسية، بل إن هذا النوع حينما ينسحب على فنون الصحافة الأخرى من مقالات وتقارير وغيرها، فهو يقوم بدفع المتلقي بطرق خفية وغير مباشرة إلى نسيان قضاياه المصيرية وهمومه الملحة، والشغل الشاغل لهذا النوع من التحقيقات الجوانب الطريفة والترفيهية والمسلية والتافهة أحيانا في الحياة، مثل: الأحداث الغريبة والأساطير والخرافات أو خطوط الموضة والمكياج والإكسسوارات، أو الموضوعات التي تدور عن الممثلين والممثلات وأهل الغناء والرياضة ونحو ذلك.
وبهذا تتحول مهنة الصحافة في خفاء ومكر ودهاء من منبر للتمكين المعرفي والثقافي إلى منبر تسطيح وتسفيه وتجهيل.
ويلخص الواقع العام للصحافة الآن الأستاذ رياض المسيميري حيث يقول: "كانت الصحافة فارسة الميدان بلسان ذرب، وفكر هابط، تتكلم باسم المجتمع وتهتف نيابة عن الأمة، والجمهور المغلوب على أمره يتلقى ولا يلقي، ويستقبل ولا يرسل، ويسمع ولا يتكلم و يقرأ ولا يكتب!!.
وكانت غلمان الصحافة وعواجزها ينامون ملء جفونهم، لا يهابون من قلم يصاولهم، أو فكر هادف ينازلهم، أو أديب شريف يناظرهم، فكان قدوم النت صاعقة على رؤوس مراهقي الفكر الهزيل، وغويلمة الأوراق الصفراء والجرائد الخرقاء!! فما يكتب في الصحافة صباحا يفند في النت ظهرا، وما يدسه اللئام يكشفه الكرام! وما يبنيه العواجز يهدمه الشباب الغيور!. وهم بهذا يمتثلون آمر نبيهم - عليه الصلاة والسلام -: (فمن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن)".
ويصف الرئيس الأمريكي (جيفرسون) الصحافة بأنها أداة لتنوير عقل الإنسان٬ ولتقدمه ككائن عاقل أخلاقي واجتماعي.
ويقول (أدولف. س. أوكس)٬ ناشر جريدة نيوورك تايمز: "إن الصحافة مهنة لا تستميلها الصداقات٬ ولا يرهبها الأعداء٬ وهي لا تطلب معروفا٬ ولا تقبل امتنانا .. إنها مهنة تتغاضى عن العاطفة٬ والتحيز٬ والتعصب إلى أبعد الحدود٬ فهي مكرسة للصالح العام٬ ولفضح الألاعيب والانحرافات٬ والقصور في الشؤون العامة٬ وتتعامل بروح العدل والإنصاف٬ مع أصحاب الآراء المعارضة٬ مهنة شعارها ليكن هناك نور.
وفي الثمانينات من القرن الماضي تنبأ المفكر الأمريكي "ألفين توفلر" في كتابه (الموجة الثالثة) بأن العالم وتاريخ الإنسانية سينتقل من المرحلة الصناعية (الموجة الثانية)، بعد المرحلة الزراعية (الموجة الأولى)، إلى المرحلة المعرفية (الموجة الثالثة)، والتي ستعرف تحكم المعرفة والمعلومات في بنيات الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية.
فهل تضطلع صحافتنا بدورها المعرفي الرائع الذي وكلت به، ورسالتها الثقافية السامية الملقاة على عاتقها، ودورها التنويري وتشكيل الرأي العام .. أم أنها باتت -في مجملها- لا تجيد غير الطبل والزمر وتضخيم الإنجازات وغض الطرف عن الإخفاقات.
وهل تمتلك صحافتنا اليوم الجرأة على نقد الذات وتقديم الحلول بدلا من الانخراط في طوفان الضجيج الإعلامي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
وهل لصحافتنا المعاصرة الرغبة في مواكبة تكنولوجيا الإعلام التي أضحت قاسما مشتركا بين جميع الأنشطة الإنسانية، السياسية منها والصناعية والاقتصادية والعسكرية والثقافية وحتى الترفيهية.