- اسم الكاتب:إسلام ويب ( د. عبد الله عطا عمر )
- التصنيف:مناهج المحدثين
كتب الإمام أبو داود السجستاني رسالته المشهورة إلى أهل مكة، وصف فيها سننه، وتحدث فيها عن أهم الأمور التي يرى أهميتها وضرورة بيانها، وتعد رسالة أبي داود هذه من أوائل وأهم الرسائل في علم مصطلح الحديث، ومن شدة أهميتها فقد اعتنى بها كثير من العلماء قديما وحديثا، فمنهم من شرحها، ومنهم من استنبط منها أهم القواعد والأصول التي ما وردت فيها، ومنهم ما حاول أن يقارن بين ما جاء فيها وبين منهج الإمام أبي داود الذي طبقه من هذه القواعد في كتبه السنن، ليقف على مدى التزامه في تطبيقه لما ذكره فيها من أحكام ومناهج.
وسنقف مع أهم مضامين هذه الرسالة، وأهم بنودها وما فيها من الفوائد العظيمة التي ذكرها فيها، والتي يحتاج إليها أهل العلم في كل زمان ومكان، وسوف نكتفي بالوقوف على عناوين هذه البنود، ونترك كلماته - رحمه الله تعالى - تتحدث عن نفسها، دون شرح أو تفصيل، فالعبارات واضحة جلية في معناها، وعناوينها مقتضبة مختصرة، فلا يسعنا إلا أن نشنف آذاننا لكلمات هذه الرسالة القيمة، ونصغي لها بكل أسماعنا لنستنبط منها من الدرر والحكم، والفوائد التي كانت جوابا منه لهم، قرر لهم فيها وصفه الكامل الشامل لكتابه، تحت عدة عناوين ومسائل منها:
قلة أحاديث الأبواب والسبب في ذلك
حيث قال: "ولم أكتب في الباب إلا حديثا أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح فإنه يكثر، وإنما أردت قرب منفعته".
الهدف من إعادته للحديث
قال: "وإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة، فإنما هو من زيادة كلام فيه، وربما تكون فيه كلمة زيادة على الأحاديث".
سبب اختصار الحديث
قال: "وربما اختصرت الحديث الطويل؛ لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من سمعه، ولا يفهم موضع الفقه منه، فاختصرت لذلك".
منهجه في الحديث المرسل والاحتجاج به
قال: "وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى، مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس، والأوزاعي، حتى جاء الشافعي فتكلم فيها، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره، رضوان الله عليهم، فإذا لم يكن مسند غير المراسيل، ولم يوجد المسند، فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة". وقرر في هذه الرسالة أن كتابه السنن ليس فيه أي حديث عن متروك، حيث قال: "وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء". وذكر أنه يبين المنكر، قال: "وإذا كان فيه حديث منكر بينت أنه منكر، وليس على نحوه في الباب غيره".
وازن فيها بين كتابه وبين كتب ابن المبارك ووكيع ومالك وحماد
فقال: "وهذه الأحاديث ليس منها في كتاب ابن المبارك، ولا كتاب وكيع، إلا الشيء اليسير، وعامته في كتاب هؤلاء مراسيل، وفي كتاب السنن من موطأ مالك بن أنس شيء صالح، وكذلك من مصنفات حماد بن سلمة وعبد الرزاق، وليس ثلث هذه الكتب فيما أحسبه في كتب جميعهم - أعني مصنفات مالك بن أنس وحماد بن سلمة وعبد الرزاق -".
منهجه في جمعه للسنن واستقصائه لها
فقال: "وقد ألفته نسقا على ما وقع عندي، فإن ذكر لك عن النبي صلى الله عليه وسلم سنه ليس مما خرجته فاعلم أنه حديث واه، إلا أن يكون في كتابي من طريق آخر، فإني لم أخرج الطرق لأنه يكبر على المتعلم، ولا أعرف أحدا جمع على الاستقصاء غيري، وكان الحسن بن علي الخلال قد جمع منه قدر تسعمائة حديث، وذكر أن ابن المبارك قال: السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو تسعمائة حديث. فقيل له: إن أبا يوسف قال: هي ألف ومائة؟ قال ابن المبارك: أبو يوسف يأخذ بتلك الهنات من هنا وهنا، نحو الأحاديث الضعيفة".
تبيين ما فيه من وهن شديد
فقال: "وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، ومنه ما لا يصح سنده".
بيانه للمسكوت عنه واعتباره صالحا
قال: "وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض، وهذا لو وضعه غيري لقلت أنا فيه أكثر"، وعن محاولة استقصائه للأحاديث قال: "وهو كتاب لا ترد عليك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صالح إلا وهي فيه، إلا أن يكون كلام استخرج من الحديث ولا يكاد يكون هذا".
قيمته ومقداره
قال: "ولا أعلم شيئا بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلموه من هذا الكتاب، ولا يضر رجلا أن لا يكتب من العلم بعد ما يكتب هذه الكتب شيئا، وإذا نظر فيه وتدبره وتفهمه حينئذ يعلم مقداره"، وقرر فيها أن أحاديث كتابه تعد أهم أصول المسائل الفقهية فقال: "وأما هذه المسائل مسائل الثوري ومالك والشافعي فهذه الأحاديث أصولها".
مما ذكره في الرسالة
تحدث فيها عن آراء الصحابة فقال: "ويعجبني أن يكتب الرجل مع هذه الكتب من رأي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"، وتحدث عن جامع سفيان الثوري فقال: "ويكتب أيضا مثل جامع سفيان الثوري فإنه أحسن ما وضع الناس في الجوامع"، وذكر أحاديث السنن وأنها مشاهير، وذكر أنه لا يحتج بالغريب فقال: "والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئا من الحديث إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس، والفخر بها أنها مشاهير، فإنه لا يحتج بحديث غريب، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم، ولو احتج رجل بحديث غريب وجدت من يطعن فيه، ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريبا شاذا، فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده عليك أحد، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث، وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة، فإن عرف وإلا فدعه، قد يوجد المرسل والمدلس عند عدم وجود الصحاح، وإن من الأحاديث في كتابي السنن ما ليس بمتصل وهو مرسل ومدلس، وهو إذا لم توجد الصحاح عند عامة أهل الحديث على معنى أنه متصل وهو مثل الحسن عن جابر، والحسن عن أبي هريرة، والحكم عن مقسم، وسماع الحكم من مقسم أربعة أحاديث، وأما أبو إسحاق عن الحارث عن علي فلم يسمع أبو إسحاق من الحارث إلا أربعة أحاديث، ليس فيها مسند واحد، وأما ما في كتاب السنن من هذا النحو فقليل، ولعل ليس للحارث الأعور في كتاب السنن إلا حديث واحد، فإنما كتبته بأخرة، وربما كان في الحديث ما تثبت صحة الحديث منه إذا كان يخفى ذلك علي، فربما تركت الحديث إذا لم أفقهه، وربما كتبته وبينته، وربما لم أقف عليه، وربما أتوقف عن مثل هذه، لأنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث، لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا". أما عن عدد أجزاء علم الحديث فقال: "وعدد كتب هذه السنن ثمانية عشر جزءا مع المراسيل، منها جزء واحد مراسيل"، وتحدث عن حكم المراسيل فقال: "وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من المراسيل منها ما لا يصح ومنها ما هو مسند عن غيره، وهو متصل صحيح".
عدد أحاديث كتابه
قال: "ولعل عدد الذي في كتابي من الأحاديث قدر أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ونحو ستمائة حديث من المراسيل".
منهجه في الاختيار
قال فيه: "من أحب أن يميز هذه الأحاديث مع الألفاظ فربما يجيئ حديث من طريق وهو عند العامة من طريق الأئمة الذين هم مشهورون، غير أنه ربما طلبت اللفظة التي تكون لها معان كثيرة، وممن عرفت نقل من جميع هذه الكتب، فربما يجيء الاسناد فيعلم من حديث غيره أنه غير متصل ولا يتبينه السامع إلا بأن يعلم الأحاديث وتكون له فيه معرفة فيقف عليه، مثل ما يروى عن ابن جريج، قال: أخبرت عن الزهري، ويرويه البرساني عن ابن جريج عن الزهري، فالذي يسمع يظن أنه متصل، ولا يصح بتة، فإنما تركناه لذلك، هذا لأن أصل الحديث غير متصل ولا يصح، وهو حديث معلول، ومثل هذا كثير، والذي لا يعلم يقول قد تركنا حديثا صحيحا من هذا وجاء بحديث معلول". وتحدث عن مواضيع كتابه وكيف أنه اقتصر على الأحكام في كتابه السنن فقال: "وإنما لم أصنف في كتاب السنن إلا الأحكام، ولم أصنف كتب الزهد وفضائل الأعمال وغيرها، فهذه الأربعة آلاف والثمانمائة كلها في الأحكام، فأما أحاديث كثيرة في الزهد والفضائل وغيرها من غير هذا لم أخرجه".
هذه هي إجابته رحمه الله تعالى في رسالته، وقفنا على أهم ما يجب الوقوف عليه فيها، والله تعالى أعلم.