- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:من بدر إلى الحديبية
خطر المنافق على الإسلام أكثر من خطورة الكافر، لأن المنافق عدو خفي، والكافر عدو ظاهر، والعدو الخفي ضرره أكثر، وإيذاؤه أشد، ولذلك جعل الله المنافقين في أسفل النار كما قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا} (النساء:145). وقد حذر الإسلام من خطورة النفاق والمنافقين علي المجتمع الإسلامي, وأنزل الله عز وجل في القرآن الكريم سورة سميت بسورة "المنافقون", وفيها ذكر لبعض صفاتهم، قال الله عز وجل: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون * ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} (المنافقون:4:1).
بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ودخول كثير من أهلها في الإسلام، أصبح للمسلمين دولة، واجه النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى جانب عداء ومكر اليهود الذين كانوا يقيممون فيها، عداء من نوع جديد، لم يكن للمسلمين عهد به في مكة، وهو النفاق والمنافقون، إذ أن معسكر المنافقين لم يتكون إلا بعد الانتصار الكبير للمسلمين في غزوة بدر، وقتل صناديد كفار قريش، وكان على رأس هؤلاء المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، الذي لم تطاوعه نفسه أن يسلم لله عز وجل بسبب حقده وحسده، وضياع مكانته التي كان يتطلع إليها قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة المنورة. قال ابن هشام في السيرة النبوية: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول العوفي، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل غيره من أحد الفريقين، حتى جاء الإسلام، وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه، ثم يملكوه عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام، ضغن (حقد)، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها، مصرا على نفاق وضغن".
ومع أن المنافقين ـ الذين يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر ـ أشد كفرا وأكثر خطرا من المشركين، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذهم إلا بما ظهر منهم, مع علمه بما هم عليه من النفاق الأكبر، وكان من هديه وسيرته صلوات الله وسلامه عليه معهم محاولة إصلاحهم، حتى يكونوا لبنة صالحة في المجتمع، قال ابن القيم: "أما سيرته صلى الله عليه وسلم في المنافقين, فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم, ويكل (يترك) سرائرهم إلى الله, وأن يجاهدهم بالعلم والحجة".
وقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم معهم طريق الإغضاء والعفو عن أخطائهم، يقبل منهم أعذارهم على ضعفها وكذبها، فإذا وقع أحدهم في إساءة أدب معه صلى الله عليه وسلم إلى الحد الذي يجعل الصحابة رضوان الله عليهم يطالبونه بقتلهم، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان متمسكا بمنهجية التجاوز والصفح عنهم، وعدم قتل أحد منهم، حتى لا يقال: إن محمدا يقتل أصحابه، والأمثلة والمواقف الدالة على ذلك من السيرة النبوية كثيرة، منها:
ـ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية (كساء غليظ منسوب إلى فدك)، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج (منازل بني الحارث وهم قوم سعد بن عبادة) قبل وقعة بدر، قال حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط (أنواع وجماعات)، من المسلمين والمشركين، عبدة الأوثان، واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة (غبار) الدابة خمر (غطى) عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا، فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم (يسكتهم) حتي سكنوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل علىسعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب (عبد الله بن أبي)، قال كذا وكذا؟ قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح عنه، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة (المدينة المنورة) على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة (يجعلوه سيدا عليهم)، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق (حقد) بذلك، فذلك فعل به ما رأيت (من فعله وقوله القبيح)، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذي. قال الله عز وجل: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} (آل عمران: 186)، وقال الله: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} (البقرة: 109)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه (ظهر فلا مطمع في إزالته)، فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا).
ـ وعن جابر رضي الله عنه قال: (أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منه ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية) رواه مسلم.
ـ وروى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا في غزاة (بني المصطلق) فكسع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه (اتركه)، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه).
لقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم عقاب المنافقين لمصلحة تأليف القلوب، وإخماد الفتن، ولعدم تنفير الناس عن الإسلام، فقد كان المجتمع الخارجي المحيط بالمسلمين في المدينة المنورة، ينظر إلى هذا الدين الجديد ـ الإسلام ـ، وهذه الدولة الوليدة في المدينة المنورة، بنظرة حذر وترقب وترصد لقرارات قائدها، وتعاملاته وأخلاقه، بل وصل الحد بهم إلى أن بحثوا وسألوا في سيرة هذا النبي الجديد، وفي نسبه ومولده، ونشأته وأخلاقه، كما جاء في الحوار المشهور الذي دار بين أبي سفيان زعيم قريش ـ قبل إسلامه ـ وهرقل ملك الروم. قال ابن القيم: "والنبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: ألا تقتلهم؟ لم يقل: ما قامت عليهم بينة، بل قال: (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)". وقال ابن تيمية: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه".
وقال النووي: " قوله صلى الله عليه وسلم (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) فيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم، وفيه ترك بعض الأمور المختارة والصبر على بعض المفاسد خوفا من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم منه، وكان صلى الله عليه وسلم يتألف الناس ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم، لتقوى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغب غيرهم في الإسلام، وكان يعطيهم الأموال الجزيلة لذلك، ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى ولإظهارهم الإسلام، وقد أمر بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، ولأنهم كانوا معدودين في أصحابه صلى الله عليه وسلم، ويجاهدون معه إما حمية، وإما لطلب دنيا، أو عصبية لمن معه من عشائرهم، قال القاضي: واختلف العلماء هل بقي حكم الإغضاء عنهم وترك قتالهم، أو نسخ ذلك عند ظهور الإسلام ونزول قوله تعالى: {جاهد الكفار والمنافقين} (التوبة:73)، وأنها ناسخة لما قبلها. وقيل قول ثالث: أنه إنما كان العفو عنهم ما لم يظهروا نفاقهم فإذا أظهروه قتلوا".
من الدروس المستفادة من السيرة النبوية بيان أسلوب وطريقة وحكمة معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين، مع بيان خطورتهم، فبلية المؤمنين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين والمحاربين، لأنهم لا يظهرون ما يعتقدون من كفر، ويعملون ويكيدون في الخفاء، ولهذا قال الله عنهم: {هم العدو فاحذرهم} (المنافقون: 4)، قال السعدي: "فهؤلاء {هم العدو} على الحقيقة، لأن العدو البارز المتميز، أهون من العدو الذي لا يشعر به، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي، وهو العدو المبين".