والجبال أوتادا

0 1360

ورد ذكر لفظ (الجبال) بصيغة الجمع في القرآن الكريم ثلاثا وثلاثين مرة، وورد بصيغة المفرد ست مرات، ما يعني أهمية الجبال في حياة الكون والإنسان، وأنها آية من آيات الله المبثوثة في هذا الكون، والدالة على عظمته وقدرته سبحانه وتعالى. 

وقد ذكر القرآن الكريم وأشار في عدد من آيته إلى ظاهرة الجبال شكلا ووظيفة، والتي لم يستطع الإنسان أن يصل إليها كحقيقة معروفة إلا بعد التقدم والتطور العلمي والتقني الهائل الذي حصل في القرنين الأخيرين من عمر البشرية.

لقد عرف الإنسان الجبال منذ القدم، وتعامل معها، وعاش في أكنافها، واستفاد منها، ومن مكوناتها المستفادة المباشرة التي عرفها من خلال شكلها الظاهري؛ فقد عرف الجبل بأنه: كل ما ارتفع عن سطح الأرض واستطال وتجاوز التل ارتفاعا. فهل يفي هذا التعريف (الجبل) حقه الآن؟

إجابة على هذا التساؤل سنجول في صفحات (تاريخ الجبال) على مدى القرون الثلاثة الأخيرة، والتي تميزت بالكثير من الكشوف العلمية الهامة في شتى المجالات الكونية.

لقد فتن الإنسان بالجبال شكلا، وجذب إليها؛ لما فيها من منافع واكتفى بمعرفتها ظاهريا إلى بداية القرن الثامن عشر عندما تنبه (بير بوجر) والذي كان يرأس بعثة إلى جبال (الأنديز) إلى أن قوة الجذب المقاسة في هذه المنطقة لا تتناسب مع كتلة هذه الجبال الهائلة، وإنما هي أقل بكثير مما هو متوقع، معتمدا على الانحراف في اتجاه القمم البركانية في تلك المنطقة، والملاحظ على قياس الجذب التقليدي الذي كان متوفرا لديه، والمسمى بميزان البناء (Plumb Bab) ونتيجة لهذه الملاحظة الأولية، افترض (بوجر) ضرورة وجود كتلة صخرية هائلة غير مرئية، ليس لها مكان إلا أسفل تلك الجبال البارزة.

ولقد حفلت بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بالكثير من أعمال المسح الجيولوجي، التي قامت بها بعثات جيولوجية بريطانية في شبه الجزيرة الهندية، وفسرت من خلالها الكثير من الظواهر. غير أن ظاهرة الشذوذ في قراءات الجاذبية قريبا من جبال الهيمالايا، والتي اشتهرت باسم لغز الهند، لم تفسر تفسيرا منطقيا إلا في منتصف ذلك القرن من خلال أعمال المسح، التي كان يتولى الإشراف عليها (جورج أفرست) والتي كانت تشير بوضوح إلى أنه لا يمكن تفسير هذا الشذوذ إلا بافتراض وجود امتدادات لهذه الجبال الهائلة منغرسة في جوف القشرة الأرضية إلى مسافات عميقة، وأن هذه الامتدادات إما أن تكون من نفس مادة الجبال البارزة، أو أكثر كثافة منها.

بهذه الفرضية أمكن حل مشكلة الفارق الملاحظ في قياس المسافة بين محطة (كإلىانا) الواقعة في أحضان جبال الهيمالايا، و(كإلىان بور) البعيدة نسبيا عن جبال الهيمالايا، والواقعة في المنطقة المنبسطة، والذي قدر بحوالي (153) مترا، هذا الفرق كان قد لوحظ عندما قيست المسافة بطريقتي قياس مختلفتين: الأولى تعتمد علي حساب المثلثات، وتسمى بطريقة المسح الثلثي (Triangulation Technique) والثانية تعتمد على موقع النجم القطبي، وتسمي بطريقة المسح الفلكي (Astronoical Technique) وقد عزى جون هاري برات ( John Henry Pratt) هذا الفارق إلى تأثر الطريقة الثانية المستخدمة في القياس بقوة جذب كتلة غير منظورة، لم يتم إدخالها في المعادلات المستخدمة لإنجاز الحسابات النهائية للقياسات. وبعبارة أخرى كان يشير إلى وجود جذور (Roots) لجبال الهيمالايا ممتدة أسفل منها، وهي التي أثرت على القياسات، وأظهرت الفارق سالف الذكر.

في عام (1865م) تقدم جورج أيري (George Airy) بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساسا مناسبا للجبال التي تعلوها، وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبال لا تمثل إلا جزرا طافية على بحر من صخور أعلى كثافة. وعليه، فلا بد للجبال لضمان ثباتها واستقرارها على هذه المادة الأكثر كثافة، أن تكون لها جذور ممتدة من داخل تلك المنطقة العالية الكثافة.

إن التفسير العلمي لنظرية جورج أيري أتى من خلال النموذج الذي قدمه الجيولوجي الأمريكي دتون في عام (1989م) (Theory of Isostasy) شارحا به نظريته المسماة بـ (نظرية الاتزان) والمتمثل في مجموعه من حوض مملوء بالماء، شكل المجسمات الخشبية المختلفة الارتفاعات طافية فيه، وقد تبين من هذا النموذج أن الجزء المغمور في الماء من المجسمات الخشبية يتناسب طردا مع ارتفاعه، ذاكرا أنها في حالة أسماها بحالة الاتزان الهيدروستاني (State of Hydrostatic Balance) أما التمثيل الطبيعي والتقليدي لهذه الحالة فهي في الواقع حالة جبال الجليد العائمة (Iceebergs).

ثم تطورت العلوم وتوالت الكشوف، وانتقلت قضية جذور الجبال من مرحلة النظرية إلى الحقيقة والواقع الملموس، ثم تقدمت الأبحاث والمعارف بتركيب الأرض الداخلي عن طريق القياسات (السايزمية تحت السطحية) والتي كشفت أن القشرة الأرضية الصلبة التي نحيا عليها لا تمثل إلا طبقة رقيقة جدا قياسا بما تحتها من طبقات وتراكيب أخرى، وأن هذه الطبقة في الواقع تطلق على طبقة أعلى كثافة منها، ولكنها في حالة مانعة تكسا بالوشاح، ثم عرفنا حقيقة أخرى، تتمثل في أن استقرار واتزان القشرة الأرضية بما تحمله من جبال وتلال ووديان، لا يتم على طبقة الوشاح إلا من خلال امتدادات من مادة القشرة داخل نطاق الوشاح، وأن هذه الامتدادات لا يمكن أن تمثل عمليا إلا بوتر الأوتاد في تثبيت الخيمة على سطح الأرض لضمان ثباتها وعدم اضطرابها.

ثم وصلت الأبحاث إلى مرحلة من المعرفة أمكن من خلالها رسم العديد من الخرائط تحت السطحية في أجزاء عديدة من الكرة الأرضية، كما أمكن من خلالها إثبات أن الجذور التحت سطحية تتناسب طردا مع ما يعلوها من تراكيب؛ فهي ضحلة في حالة المنخفضات، وعميقة جدا في حالة الجبال المرتفعة. ليس هذا فحسب، بل أمكن أن نقيس أطوال هذه الجذور، وتوقع تركيبها وخواصها الطبيعية والكيميائية.

هذا ما قاله العلم فماذا قال القرآن؟

أليىست هذه الحقائق التي ثبتت الآن بيقين، هي ما أشار إليه كتاب الله الكريم بإيجازه المعجز، عندما قال جل من قائل: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} (النحل:15) مشيرا إلى ما خفي على الإنسان من دور ووظيفة الجبال في ثبات واستقرار الأرض التي يعيش عليها هذا الإنسان، وفي قوله تعالى: {والجبال أوتادا} (النبأ:7) مشيرا إلى الشكل الحقيقي للجبل وجذره الخفي الممتد أسفل منه. كل ذلك في كلمتين سهلتين واضحتين. ولقد أدرك العلماء المسلمون الأوائل هذه الحقائق من كتاب ربهم عندما تعرضوا لتفسير هذه الآيات الكريمة.

مقارنة بين ما ذكره القرآن وما ذكرته الموسوعة البريطانية

عرفت الموسوعة البريطانية (Encyclopedia Britannica) ذائعة الصيت (الجبال) حيث قالت: "إن الجبل هو منطقة من الأرض مرتفعة نسبيا عما حولها". ثم تحدثت الموسوعة عن سلاسل الجبال وأنواعها المختلفة. وهكذا نجد أن الموسوعة قد اقتصرت في تعريفها للجبال على الشكل الخارجي فحسب.

والقرآن الكريم كان قد لفت انتباه الإنسان إلى (ظاهرة الجبال) كونها آية من آياته الكونية عندما قال: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت} (الغاشية:17-19)، كما أن القرآن الكريم كان قد وجه الإنسان إلى تلك الحقيقة من خلال الآية الكريمة: {والجبال أوتادا} (النبأ:7) ومعرفة أسرار هذه الحقيقة ما كان متيسرا في القرون التي سبقت قرون الكشوف العلمية، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم أيضا في قوله تعالى: {لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون} (الأنعام:67) إلا أن ذلك لم يمنع العالم المسلم من أن يسبق عصره في فهمه لبعض الظواهر والسنن الكونية -على الأقل في صورتها الجمالية- فكيف به لو استفاد مما هو متوفر له الآن، أو يتوفر في المستقبل من إمكانات علمية ومفاتيح معرفية.

وسيكون العلم في عصرنا والعصور التالية برهانا ساطعا على صدق الوحي. وسيشهد العلماء قبل غيرهم بهذا، قال تعالى: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} (سبأ:6) وستتجلى آيات الله في الآفاق والأنفس حتى يتبين للناس أن الذي أنزل على محمد هو الحق.

* مادة المقال مستفادة من موقع (الإعجاز العلمي في القرآن والسنة) بتصرف.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة