- اسم الكاتب:أبو عبد الرحمن الإدريسي-إسلام ويب
- التصنيف:تعزيز اليقين
هذه ورقات مكاشفة ومصارحة، ودعوة إلى التأمل والتفكير، أسألك فيها لا أطلب سوى الصراحة، وأن تتجرد برهة من كل الأهواء والعصبيات، والأحكام المسبقة والانجرافات الاجتماعية، أخطها إليك أخاطب فيها ضميرك الحي، وفطرتك السوية، وكيف أصبحت في هذه الحال ؟ ومن أين هي أخطاؤك المنهجية التي قذفت بك إلى هذا المحل ؟
فقل لي بربك لماذا ضللت ؟ وكيف تهت عن الطريق فعزمت وفعلت ؟ هذه أسباب عددها لي بعض الضالين إليكها مع بيان تعقيبي عليها، عسى أن تجد فيها ما يشبه حالتك، وتقر نفسك بالجواب فتعود إلى جادة الصواب :
الحالة الأولى : تركت النصرانية واعتقدت في اللادينية ؟ وأدركت أن الأديان وضعية !!
من حقك أيها الإنسان أن تتفكر في دينك، وأن تسأل وتنظر إلى مدى إقناع الأجوبة ومدى حجيتها في ميزان المنطق . فدينك القديم هو مجموعة من المعتقدات صعبة الفهم، المستعصية على الأذهان، وهي حسب علم مقارنة الأديان، خليط من عقائد وثنية وأخرى توحيدية، طمس فيها الحق وألصق به الباطل.
نعم أيها الإنسان أتفهم أنك ستعيش في ضنك إثر هذه العقيدة المتهافتة المتناقضة، وأعلم أن تهت في محارات الاستحالات وخضت فيها حتى أنك أعيتك، لكني لا أفهم لماذا نزعت إلى اللادينية الربوبية وأسقطت دين النصرانية على كل أديان العالم واعتبرتها كلها وضعية ؟
والحقيقة أن الإسلام العظيم أنكر تلك العقائد، من صلب وفداء وادعاء لربوبية المسيح والروح القدس، وتوارث الخطيئة وغيرها -1-.
واللادينية في حقيقتها هي قول على الله بغير علم، فمن أخبر اللادينيين أن الله تعالى لم ينزل دينا وقد خلق البشر مختارين تواقين للتدين ؟
وكيف ترك البشرية تموج في ظل القوانين الوضعية التي لم تحقق ما يصبوا إليه الإنسان من خير وسعادة ؟ فبهذا المنطق ينسب اللادينيون الظلم والهمل لله تعالى، وهذا من المحالات العقلية التي نبه إليها الإسلام في قوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} (ص: 27 )، وفي قوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} (الأنبياء : 16) وفي قوله عز وجل: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون} (الدخان : 38 -39).
وكيف لك أن تعتقد بأنه لا حساب ولا عقاب والظلمة والمجرمون كثيرا ما يفلتون من العقاب ؟ فهل يعقل أن تنفي صفة العدل عن الله تعالى والحكمة؟ وإن نفيت كل هذه الصفات فماذا بقي لك من صفات تعتقدها ؟
إن آفة المعتقد اللاديني أنه تاه بين عقول الناس كل يضيف فيه ما شاء وينقص منه ما يريد، في ظل غياب اليقين والمصدر ! {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} (الأنعام : 116).
الحالة الثانية : لقد تأثرت بالفلسفة أيام دراساتي الجامعية، وأصبحت ملحدا بعدها .
أما حالتك أيها الملحد فمنتشرة معروفة، وسببها أنك لم تتلق علما قبل دراستك الجامعية يقيك من الانحراف والتأثر بالفلاسفة، فكنت كالإسفنجة التي عليها أن تتشرب أي سائل قدم إليها في المرة الأولى، سواء كان ماء طاهرا أو نجسا منتنا !
فاطلعت على فلسفات الغرب وشبهاتهم قبل أن تطلع على ثقافتك ودينك، فالطالب في مرحلة الدراسات الجامعية يبدأ بتكوين شخصيته الثقافية، والأساتذة يمارسون منهجية التشريب لطلبتهم، فإن صلح أولئك أثمروا زرعا صالحا، وإن فسدوا حصدوا الشر من أمثالهم !
ولم تطلع على كتب أهل العلم الذين ردوا فيها على الفلاسفة ونقضوا غزلهم جملة وتفصيلا، فجرتك مذاهب نتشه، وفيورباخ وسارتر، إلى أن تابعتهم في كل ما يقولون حتى اعتنقت الإلحاد بزخارفه.
ومذهب الإلحاد في حقيقته أوهى من خيوط العنكبوت، فهل تستطيع إنكار صانع سيارة بديعة متناسقة ؟ لا شك أنك ستعتبر ذلك من الحمق، فما بالك بكون أعقد وأحكم من السيارة ؟ أتراه جاء صدفة ؟ وماذا تستطيع الصدفة أن تخلق ؟ فالعبث لا ينتج عنه إلا العبث، والمحكم لا يأتي إلا من حكيم ؟ -2-
إضافة إلى أنك خالفت فطرتك وتعيش في ضنك كبير ومسالك نفسية صعبة باعتراف الملحدين وعلماء النفس -3-.
الحالة الثالثة : ارتددت عن الدين لرؤية حالة أتباعه من التخلف .
أما أنت فمشكلتك منبثقة عن ما يسميه علماء الاجتماع بـ " أزمة الهوية " La crise d'identité، وهي أنك نظرت إلى الغرب فرأيتهم متقدمين اقتصاديا وعلميا فتابعتهم، ورددت المسألة إلى ما يعتنقون لا إلى الأخذ بأسباب التقدم والحضارة، ولو عشت أيام حضارة المسلمين لانقلبت المسألة إلى العكس، فالحضارة المهيمنة دائما ما يكون لها تأثير على الحضارات المتخلفة الأخرى.
ولم يكن الإسلام في يوم من الأيام يعيق عن التقدم، بل على العكس تماما فقد عرف المسلمون أبهى الحضارات والكشوفات، ولم تكن هناك مشكلة في ذلك، بعكس النصرانية التي كانت لها نفوذ ويستغل رهابانها والإكليروس الأتباع ويغتنون على حسابهم، حتى جعلوا البابا مقدسا معصوما وحكموا قرونا يحاربون فيها العلم والعلماء، فلما تحرروا من هذه السطوة تقدموا في حين أن الأمة لما استعمرت وفرطت في منهاج ربها تأخرت .
ولا زال الغرب يموج في كثير من الظواهر الاجتماعية الخطيرة والتي تستنزف خيراته وموارده، بسبب الفراغ الذي خلفه الدين في حياتهم، فالبشرية بحاجة إلى دين مدني يعاصر زمانهم ويلائم مكانهم، والدين الذي يقدم هذا هو الإسلام الرباني ودين البشرية الخاتم .
وهذه شهادة من المؤرخ الانجليزي Herbert George Wells يقول فيها : " كل دين لا يسير مع المدنية في كل أطوارها فاضرب به عرض الحائط، وإن الدين الحق الذي وجدته يسير مع المدنية أينما سارت هو الإسلام، ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية، وقوانين اجتماعية، فهو كتاب دين وعلم واجتماع وخلق وتاريخ، وإذا طلب مني أن أحدد معنى الإسلام فإني أحدده بهذه العبارة " الإسلام هو المدنية" -4-
ولا يجب أن تحاكم الدين بأتباعه، بل اعرف الدين تعرف أتباعه الصادقين المخلصين، فإن صدرت أي تصرفات منفرة من بعضهم فاعلم أن العيب في الشخص لا في الدين، فالشخصية الإنسانية مختلفة تتأثر بالثقافة والتربية والتنشئة الاجتماعية والطباع المختلفة، والمسلم أقسام حسب تزكيته ومدى أخذه بوصايا الإسلام . -5-
الحالة الرابعة : ارتددت عن الدين لرؤيتي الشرور في العالم ولابتلاءات عشتها
أما مشكلتك فهي نفسية بامتياز، فلربما عشت الفقر والظروف المزرية، ولربما فقدت أحباءك فأثر فيك ذلك، فعوض أن ترضى بهذه الظروف وتسعى لتغييرها عبر الأسباب المتعددة، صرفت غضبك النفسي إلى إنكار وجود خالقك، وتحسب أنك إن ارتددت فستعاقب الخالق ! وفي الحقيقة أيها المسكين فإنك لا تعاقب إلا نفسك وتجرها إلى المهالك، فالله تعالى ليس محتاجا لعبادتك، ولا يضره لو أن كل أهل الأرض كفروا ولا ينفعه إن كان كل أهل الأرض من المسلمين، وهذا مصداق الحديث القدسي : (يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني . ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد . ما نقص ذلك من ملكي شيئا . ) رواه مسلم.
بل إن الحياة الدنيا كلها ابتلاءات وموج مع الظروف، وسباحة في بحرها اللجي، وهي امتحان لكل فرد يتوج في آخره إما في الجنة أو في النار . فإن صبرت وآمنت نلت، وإن طغيت وتجبرت هنت !
وقد تطرقنا لمسألة وجود الشرور في هذا العالم في مقالنا الموسوم بـ " القضاء والقدر " فراجعه.
وأنصح ختاما كل ضال إلى أن يلبي نداء الفطرة والعقل، ويتبع منهجا علميا منصفا يتجرد من خلاله من الأهواء والأحكام القبلية، فما هو الخير الذي لم يدع إليه الإسلام ؟ وما الشر الذي لم ينه عنه؟
وإن سألت نفسك وتأملت لوجدت أن أسباب صدك وإعراضك عن الإسلام، في حقيقتها أسباب لا منطقية تافهة، وإلا فقل لي بربك لماذا ضللت ؟
هوامش المقال
1- راجع مقال: الإسلام والارتقاء العقدي للإنسان 2، ومقال: الغاية من إبطال الوثنية على إسلام ويب .
2- راجع مقال : العنقود في بيان الأدلة واجب الوجود، على إسلام ويب . ومقال الدكتور هيثم طلعت : الذرة آية من آيـات الخلق .
3- راجع مقال : ما هو القرآن ؟ على إسلام ويب .
4- عن كتاب : الإسلام والمبادئ المستوردة، د. عبد المنعم النمر، ص : 84.
5- راجع مقال: نقض الأساطير العلمانية – الجزء الثاني – في منتدى التوحيد للرد على الملاحدة.