مسالك العلة القادحة وغير القادحة عند علماء الحديث

0 1990

الحديث المعلل أو المعلول - الفعل منه أعل فهو معل - : هو الحديث الذي به على سبب خفي يقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الجامع شروط الصحة ظاهرا. قال المعلمي اليماني: إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة؛ فإنهم يتطلبون له علة، فإن لم يجدوا علة قادحة مطلقا، حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر، وذلك انطلاقا من أقوال أئمة الحديث التي عبر عنها الربيع بن خثيم بكلمته الجامعة: "إن من الحديث حديثا له ضوء كضوء النهار نعرفه به، وإن من الحديث حديثا له ظلمة كظلمة الليل نعرفه به".

من هنا كان من الأهمية بمكان البحث في مسالك وأنماط العلة، حتى نقف على مفهوم العلة القادحة والعلة غير القادحة، ذلك أن الحديث الصحيح يشترط فيه خمسة شروط، هي: اتصال السند، وعدالة الرواة وضبطهم، وعدم الشذوذ، وعدم العلة، وكما جاء في تعريف الإمام ابن الصلاح حيث قال: "الحديث الصحيح؛ هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا"، وفي هذه الأوصاف احتراز عن المرسل والمنقطع، والمعضل، والشاذ وما فيه علة قادحة وما في راويه نوع جرح، والحديث المعلل هو ما فيه علة قادحة خفية، لا يكون معللا إلا إذا اشتمل على علة موصوفة بالوصفين معا (قادحة وخفية).

قال الحافظ ابن حجر في توجيه النظر: "والمراد بالعلة هنا أمر يقدح في صحة الحديث"، ولما كان من العلل ما لا يقدح في ذلك قيد بعضهم العلة بالقادحة، فقال: ولا علة قادحة، ومن أطلق العبارة اكتفى بدلالة الحال على ذلك ولكل وجهة، وقد زاد بعضهم في تقييد العلة، فقال: ولا علة خفية قادحة، والأولى ترك هذه الزيادة، لأنها توهم أن العلة الظاهرة لا تؤثر مع أنها أولى بالتأثير من العلة الخفية، والعلة الظاهرة مثل ضعف الراوي أو عدم اتصال السند، وقد اعتذر بعضهم عن ذلك فقال: إنما قيد العلة بالخفية، لأن الظاهرة قد وقع الاحتراز عنها في أول التعريف، وهو مما لا يجدي نفعا.

فإن قيل: العلة ضارة ظاهرة كانت أو خفية قيل مسلم، لكن لا تخلو العلة الظاهرة عن أن تكون راجعة إلى ضعف الراوي أو إلى عدم اتصال السند، وقد تقدم الاحتراز عنه بقوله: الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط فإذا عدم أحدهما عدما ظاهر سمي باسمه من انقطاع أوضعف ونحوهما من أول وهلة فلا تكون العلة أمرا زائدا إلا إذا كانت مع قدحها خفية. وقال الحافظ ابن حجر في "النكت": وزاد أهل الحديث قيدي عدم الشذوذ والعلة؛ لأن أحدا لا يقول: إن الحديث يعمل به، وإن وجدت فيه علة قادحة، غايته: أن بعض العلل التي ذكروها لا يعتبرها الفقهاء، فهم إنما يخالفونهم في تسمية بعض العلل علة، لا في أن العلة توجد ولا تقدح، فأهل الحديث يشترطون في الحديث الذي اجتمعت فيه الأوصاف مزيد تفتيش حتى يغلب على الظن أنه سالم من الشذوذ والعلة، والفقهاء لا يشترطون ذلك، بل متى اجتمعت الأوصاف الثلاثة سموا الحديث صحيحا، ثم متى ظهر شاذا ردوه، وقال ابن حجر: فلا خلاف بينهما في المآل، وإنما الخلاف في تسميته في الحال بعد وجود الأوصاف الثلاثة، والفريقان مجمعون: على أن العلة القادحة متى وجدت ضرت. بينما يرى بعض المحدثين أنه ينبغي أن يرد الحديث بكل علة سواء كانت قادحة أو غير قادحة، ومع ذلك فاختيار الحافظ ابن حجر أن لا يرد إلا بقادح، بدليل قوله: بعد كلامه: "وفيه احتراز عما فيه علة قادحة" فوصفه للعلة بالقادح يخرج غير القادح.

إن قول الثقة: هذا حديث صحيح، أي: "غير شاذ ولا معل" فهو إخبار منه أيضا بأنه لم يقع في رواته راو ثقة خالف الناس فيه، ولا وجدت فيه علة قادحة، وهذا في الحقيقة خبر عن الراوي بصفة زائدة على مجرد عدالته وضبطه، أو إخبار عن حال المتن بأن ألفاظه مصونة عن ذلك، وليس هذا خبرا عن اجتهاد بل عن صفات الرواة والمتون، وفي التحقيق هي أخبار عائدة إلى تمام ضبط الرواة وتتبع مروياتهم. قال ابن الصلاح في مقدمته: "ثم اعلم أنهم قد يطلقون اسم العلة على غير ما ذكرنا". ومراده بذلك أن ما حققه من تعريف المعلول، قد يقع في كلام العلماء ما يخالفه، وطريق التوفيق بين ما حققه المصنف، وبين ما يقع في كلامهم أن اسم العلة إذا أطلق على حديث لا يلزم منه أن يسمى الحديث معلولا اصطلاحا، إذ المعلول ما علته قادحة خفية، والعلة أعم من أن تكون قادحة او غير قادحة، خفية أو واضحة، ولهذا قال الحاكم: "وإنما يعل الحديث من أوجه ليس فيها للجرح مدخل". وأما قوله: وسمى الترمذي النسخ علة، هو من تتمة هذا التنبيه، وذلك أن مراد الترمذي: أن الحديث المنسوخ مع صحته إسنادا ومتنا طرأ عليه ما أوجب عدم العمل به، وهو الناسخ، ولا يلزم من ذلك أن يسمى المنسوخ معلولا اصطلاحا، كما قرره العلماء والله تعالى أعلم.

من هنا أرى أن أئمة الحديث الذين حكموا على أحاديث الصحاح؛ كصحيح ابن حبان، وصحيح ابن خزيمة قرروا أن الأحاديث التي في كتابيهما صالحة للاحتجاج، لكونها تدور بين الصحيح والحسن ما لم يظهر في بعضها علة قادحة. وذلك لأن ابن خزيمة وابن حبان - كما يرى الحافظ ابن حجر - لم يلتزما أن يخرجا الصحيح الذي اجتمعت فيه الشروط التي عرفها ابن الصلاح، لأنهما ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن، وقد صرح ابن حبان بشرطه، وحاصله أن يكون الراوي عدلا مشهورا بالطلب، غير مدلس، سمع ممن فوقه إلى أن ينتهي، فإن كان يروي من حفظه فليكن عالما بما يحيل المعنى، فلم يشترط الضبط وعدم الشذوذ والعلة، وشرط ابن خزيمة كشرط ابن حبان، فإن ابن حبان تابع له وناسخ على منواله، ومما يدل على ذلك احتجاجهما بأحاديث من يخرج لهم مسلم في المتابعات، فلا يسمى صحيحه بالمعنى الذي ذكره ابن الصلاح، وإن كانت صالحة للاحتجاج ما لم يظهر في بعضها علة قادحة.

ومما هو معلوم أن العلل الخفية إنما تكون في أحاديث الثقات، وهناك من أئمة الحديث من أعل رواية الثقة لمشابهتها لأحاديث المجروحين، وقد بين كثير من العلماء في تحقيقاتهم أنه لا يصح التعليل لحديث الثقة بممجرد الشبه بحديث المجروح، أو أن ذلك الحديث رواه ذلك المجروح كذلك كما رواه الثقة، من جهة انتقاء المانع من وقوع الحديث لكليهما، ولكن قد يفيد الشبه شبهة توجب مزيد تحر، وربما كشفت عن علة قادحة، قال ابن رجب الحنبلي تعبيرا عن هذا المعنى: "حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه فلان، فيعللون الأحاديث بذلك".

لكن الكثيرين من العلماء المتأخرين لا يراعون مثل هذا الأمر، وكأنهم يكتفون بتحقق الشروط الثلاثة الأولى في الحديث، فيحكمون بصحة الإسناد وحسنه، وهو لا يسلم من علة قادحة، ويستدلون على ذلك بما وقع من صنيع الحاكم النيسابوري، والذهبي والعراقي وابن حجر، وغيرهم. فالحديث المعلول هو الذي يطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الجامع شروط الصحة في الظاهر، ويندرج فيه مما تقدم: صور من المعلل بالقلب، والتصحيف، والإدراج، كما يندرج تحته: الشذوذ، والاضطراب، فهذه وإن كانت لها ألقابها في الضعف، لكن يصلح تسميتها عند اكتشاف الضعف بسببها: (المعلل) ويدخل فيه ما هو أوسع من ذلك، فقد تكون العلة من جهة تفرد الراوي، أو من جهة المخالفة، وغير ذلك، فالحديث الذي يرويه العدل الضابط عن تابعي مثلا عن صحابي، ويرويه آخر مثله سواء عن نفس ذلك التابعي، عن صحابي آخر، فإن كثير من الفقهاء والمحدثين يرون أنه يمكن أن يكون التابعي سمعه منهما معا، إن لم يكن هناك مانع. وفي هذا المعنى يقول الإمام السخاوي: "وفي الصحيحين الكثير من هذا، وبعض المحدثين يعلون بها، متمسكين بأن الاضطراب دليل على عدم الضبط في الجملة".

ومما هو معلوم أن طريق معرفة علة الحديث تكمن في جمع طرقه، والنظر في اختلاف رواته، ومكانتهم في الحفظ والضبط. ونأخذ من قول ابن الصلاح: فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن الظاهر السلامة منها، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات، وأنه يستعان على إدراك هذه العلة بتفرد الراوي، أو بمخالفة غيره من الرواة الثقات له، مع وجود قرائن تنضم بعضها إلى بعض، تدل الباحث في هذا الشأن على وجود علة معينة، إما إرسال لموصول، أو وقف لمرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه، فالمخالفة بين الرواة تكون في صور، فإن زاد أحد الرواة الثقات راويا في الإسناد، أو أسقط أو زاد كلمة، لم يزدها أو لم ينقصها غيره، فإن كل هذا داخل في أنواع العلة، من هنا فإن الحديث الذي يتفرد به الراوي الثقة، أو يخالف فيه غيره من الثقات يدور مع القرائن المحيطة به، فإذا دلت القرينة على أن الثقة حين زاد تلك الكلمة كان واهما أو ناسيا، فتعد هذه الزيادة معلولة، وبعض العلماء يعتبرها علة قادحة، بينما البعض الآخر لا يعدها كذلك، وإنما تدل القرائن على ذلك.

من هنا فلا يسوغ لمن رأى حديثا له إسناد صحيح أن يحكم بصحته إلا أن يكون من أهل هذا الشأن، لاحتمال أن تكون له علة قادحة قد خفيت عليه، قال الحافظ ابن حجر: "وقد وصل الغلو بفريق منهم إلى أن ألزموا الناس بالأخذ بالأحاديث الضعيفة الواهية، وقد أشار الإمام مسلم إلى ناس منهم، يعتدون برواية الأحاديث الضعاف مع معرفتهم بحالها، ووصفهم بما هم جديرون به، قال في مقدمة كتابه المشهور: "وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمي رواة الحديث وإخبارهم عن معايبهم كثير يطول الكتاب بذكره على استقصائه، وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم، أو أمر أو نهي، أو ترغيب أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته، كان آثما بفعله ذلك، غاشا لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على من سمع بعض تلك الأخبار أن يستعملها، أو يستعمل بعضها".

قال الإمام السيوطي في "التدريب": إذا روى المصنف حديثا، ووجدت الشرائط فيه مجموعة، ولم يطلع المحدث المتقن المطلع فيه على علة، لم يمتنع الحكم بصحته، ولو لم ينص عليها أحد من المتقدمين، قال: ثم ما اقتضاه كلامه من قبول التصحيح من المتقدمين ورده من المتأخرين قد يستلزم رد ما هو صحيح، وقبول ما ليس بصحيح، فكم من حديث حكم بصحته إمام متقدم اطلع المتأخر فيه على علة قادحة تمنع من الحكم بصحته، ولا سيما إن كان ذلك المتقدم ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن، كابن خزيمة وابن حبان. وأضاف السيوطي: وإن كان بعض أهل الحديث شدد فرد بكل علة قادحة كانت أم لا، كما روي عن ابن أبي حاتم أنه قال: سألت أبي عن حديث؟ فقال: إسناده حسن، فقلت: يحتج به؟ فقال: لا، واستعمله، أي: عمل به عامة الفقهاء.

متى تكون العلة غير قادحة؟

تكون العلة غير قادحة في ستة حالات، ذكرها جميعا الحافظ ابن حجر، نذكر منها: إذا وقعت العلة في الإسناد، ولم تقدح فيه مطلقا، كالحديث المدلس بالعنعنة، فإن ذلك علة توجب التوقف عن قبوله، فإذا وجد من طريق أخرى قد صرح بالسماع تبين أن العلة غير قادحة. أو إذا اختلف في الإسناد على بعض رواته، فإن ظاهر ذلك يوجب التوقف عنه، فإن أمكن الجمع بينهما على طريق أهل الحديث بالقرائن التي تحف الإسناد تبين أن تلك العلة غير قادحة. وإذا وقعت العلة في المتن دون الإسناد ولا تقدح فيهما، وهو ما يعبرون عنه بالرواية بالمعنى، كما قد وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث الصحيحين، فإن أمكن رد الجميع إلى معنى واحد، فإن القدح ينتفي عنها، وغيرها مما يصعب حصره، ويندرج تحت مثل هذه الأقسام. هذا والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة