- اسم الكاتب:الشيخ محمد الغزالي
- التصنيف:خواطـر دعوية
يروي المؤرخون أن عبدالله بن أبي السرح ارتد بعد إيمان، والتحق بمشركي مكة يزعم لهم أنه كان يفتعل الوحي مع محمد، وأن القرآن كتاب من عند الناس لا من عند الله!
وظاهر أن الرجل بهذه الفرية المهينة يسيء إلى الإسلام وأهله، ويشن على الله ورسوله حربا آثمة، فلا جرم أن يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه بالموت، وأن يهدر دمه عام الفتح مع أمثاله من المجرمين الذين لا يستحقون شرف الحياة في مجتمع نقي، وشاع نبأ هذا الحكم الواجب النفاذ، والذي لا يجوز أن يتراجع أمامه أحد.
إلا أن عثمان بن عفان - وكان أخا لعبدالله من الرضاع - طمع في استصدار عفو من رسول الله عن قريبه المخطئ، فاقتاده إلى مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتذر ويستأمن.
وسكت الرسول وهو يتذكر عظم ما اقترف هذا الكذوب في جنب الله؛ (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا)[الأنعام:21]، ولم يجب عثمان إلى ما طلب من عفو عنه.
بيد أن عثمان عاود الرجاء حتى استحيا الرسول من رده خائبا فعفا عن عبدالله وأمنه!
وبدا من حاله ومقاله - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل كان أهلا للعقوبة جديرا بالقتل، فقال له بعض أصحابه: هلا أومأت إلينا بعينك فعاجلناه بالقصاص؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الكلمة النبيلة: [ما كان لنبي أن تكون لها خائنة الأعين]!
إن أصحاب النفوس الشريفة لا يحسنون أعمال الظلام، ولا تتفاوت مسالكهم الخفية والجلية، ولا يلجؤون إلى الغمز بالعين تسترا على نية يخشون اكتشافها، أو يؤثرون كتمانها.
والدعاة إلى الله ليس أمامهم إلا نهج واحد: المصارحة بالحق، والمسالمة فيه، أو المخاصمة عليه.
وهم في هذا المنهج علماء يدرسون الحقائق الدينية والاجتماعية، أو السماوية والأرضية فلا يقصرون في بيانها، ولا يجاملون في تقريرها، ولا يخفون بعضا ويظهرون بعضا آخر، كلا! إنهم يكشفون كل ما لديهم دون مواربة أو محاذرة، وفي هذا يقول الله - جل شأنه -: {ودوا لو تدهن فيدهنون}[القلم:9].
والمداهنة التي يودها المشركون لون من الهدنة على حساب المبادئ المقررة، والمثل المنشودة، وهي هدنة تقوم على تملق المجتمع، أو الحرص على المنافع الخاصة، أو النكوص عن التضحيات اللازمة.
والأنبياء ومن على قدمهم من الدعاة يرفضون رفضا حاسما هذا المسلك القريب من النفاق والأثرة، إنهم صور حية لرسالاتهم، وحراس منتصبون للدفاع عنها والحياة بها أو الموت دونها، لا يميلون عنها يمنة أو يسرة قيد أنملة.
وتأمل توجيهات القرآن الكريم لسيد الدعاة: {وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم * وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون}[الحج:67-69]. وقوله جل شأنه: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم)[الشورى:15]. وقوله: {إن ربي على صراط مستقيم * فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم}[هود:56-57].
إن للطبائع الملتوية أسلوبا قد تنجح به في ميادين شتى، فإذا تعلق الأمر بالعقائد والفضائل والمبادئ لم تصب من النجاح سهما؛ ذلك أن طريق أصحاب المثل غير طريق أصحاب المصالح، وسياسة الدعوات القائمة على الشرف والمرتبطة بالسماء غير سياسة التطلع والصد.
ويجب أن نوقن بأن أهل الإيمان يرفضون السير بعيدا عن منطق الأمر والنهي والحلال والحرام، وما يجوز وما لا يجوز، أما الزعم بأن الغاية تبرر الوسيلة فهذا ما لا يقبلون.
عن ابن إسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى قبيلة بني عامر بن صعصعة وعرض عليهم نفسه - وذلك بعدما كذبه قومه وتجهمت الأرض له، فقال رجل منهم: والله لو أخذنا هذا الفتى من قريش لأكلنا به العرب! ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: أرأيت إن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: [لأمر إلى الله يضعه حيث يشاء!]، قال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بدينك!
إن هؤلاء قوم ينشدون الرياسة من وراء الإيمان الذي يساومونه عليه، فهم لا يطلبون وجه الله ولا يفكرون في ثواب الآخرة، والذين يصلون لغرض ويصومون لغرض ليسوا أصحاب صلاة ولا صيام، والذي يشترطون على الله لكي يؤمنوا به أن يأخذوا كذا وكذا ليسوا أهل إيمان!
ومن هنا انصرف نبي الله عنهم؛ لأنه لا يعرف سياسة (خذ وهات)، ولا يقود البشر عن طريق شهواتهم القريبة أو البعيدة، إنما يقودهم عن طريق اليقين المحض والإخلاص المبرأ والعمل الصالح المبرور، والمسلم امرؤ يحيا وفق تعاليم دين، وهو ينتصر لدينه بالطرق التي يقرها وحدها، وينأى عما عداها.
إن طبيعة الطير أن تسبح في الجو، وأن تطوي المساحات صافة أجنحتها، وطبيعة الثعبان أن يزحف على الثرى، وتتدافع أجزاؤه فوق التراب كي ينتقل من مكان إلى مكان.
والإيمان نقلة هائلة من طبع لطبع، ومن سلوك لسلوك، وهو يكلف صاحبه أن يترفع لا أن يسف، وأن يشق طريقه محلقا في الجو لا مخلدا إلى الأرض.
والمشكلة أن بعض الناس يتصور أنه باسم الإيمان يستطيع أن يتحرك بخطى الثعبان، وهيهات.
أولوا الألباب:
تأملت كيف وصف القرآن لأولي الألباب، فوجدتني أمام مجموعتين من الخلال الزكية تكمل إحداهما الأخرى:
المجموعة الأولى في سورة آل عمران، والثانية في سورة الرعد.
فأما التي في سورة الرعد فقد أحصت الآثار العلمية في الأخلاق والسير، وعدتها الامتداد الطبيعي للعقل المؤمن؛ {إنما يتذكر أولو الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم}[الرعد:19-22].
وأما التي في سورة آل عمران فقد تعرضت لمنابع الإيمان من ذكر وفكر ودعاء، ولضوابطه من جهاد وهجرة وتضحية: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض}[آل عمران:190-191]، إلى أن قال: {فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم}[آل عمران:195].
والآيات الكريمة في كلتا السورتين تصف ناسا معينين، وإنما تختلف الأوصاف باختلاف المواقف والمناسبات، وما يستغني مؤمن في حياته الخاصة والعامة عن كل ما ذكر الله - جل شأنه - هنا وهناك.
قد تقول: لكن هذا الالتزام الدقيق سيجعل أصحابه غرباء مستوحشين، بل قد يجعلهم ضعفاء مغلوبين! فإن القافلة البشرية تسير تحت رايات وشارات غير ما تقرر هنا، وإذا لم يتهاون أهل الإيمان في بعض مواريثهم هانوا وتنكرت لهم الدنيا!
وأقول: هذا هو الهراء الذي لا يثمر إلا خزي الحياتين، والذي أنطق المفرط القديم بهذا البيت النادم:
بعت ديني لهم بدنياي حتى *** سلبوني دنياي من بعد ديني!
وإني أحذر العرب والمسلمين في كل قطر من مثل هذا المنطق الكفور الضعيف، إنهم يجب أن يتشبثوا بأرضهم شبرا شبرا، وبدينهم حكما حكما، وليعلموا أن نية التفريط أول بوادر الهزيمة، وأن النزول عن جزء من الحق إيذان بضياع الحق كله.
لقد بدأ الإسلام غريبا مستضعفا، فلما ثبت عليه أهله أصبح قطب الوجود، ومنارة الدهور، وما كلفهم ذلك إلا شيئا واحدا هو صدق الإيمان، وإن خفق القلب واضطرب القدم، وقل الناصر وفجر الباغي، وعمت الأفق الغيوم. يقول - سبحانه -: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}[النور:55].
والشرط الفذ الذي نوه به القرآن ليتحقق هذا الرجاء هو قوله - سبحانه -: {يعبدونني لا يشركون بي شيئا}[النور:55]، وبعد أن ألمح إلى أركان هذه العبادة المفروضة أومأ إلى قوى المبطلين بازدراء، وبين أنها ستذوب في حرارة الإيمان المنتصر آخر الأمر؛ {لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير}[النور:57].
النصر حليف الإيمان الحق:
إن النصر حليف دائم للإيمان الحق لا يمكن أن يتخلف عنه أبدا، ولقد ذاق المسلمون في تاريخهم المديد حلاوة النصر وآلام الهزيمة؛ فهل كانت انكساراتهم لتخلف في مواعيد الله؟
كلا! إنهم هم الذين أوهنوا علاقتهم بالله، فلما ارتابت قلوبهم وضعف إيمانهم؛ تخلت عنهم العناية الإلهية.
قرأت هذا التعليق على جهاد نور الدين زنكي ضد الصليبيين القدامى أنقله بحروفه؛ لعل فيه عبرة: "كان الإفرنج قد ملكوا أكثر البلاد منذ خمسين سنة، وكانوا أعداد الرمال تمدهم أوروبا كلها بما يشد أزرهم ويضمن غلبهم، وحسب الناس أن هذه الغمة لن تزول، فما هي إلا أن ظهر الرجل الذي نشر راية القرآن، وضرب بسيف محمد، حتى عاد النصر يمشي في ركاب المسلمين، وعاد أمرهم إلى الزيادة، وأمر الصليبيين إلى النقص، وبذلك يكون لنا كلما شئنا النصر!
إن راية القرآن لم تهزم قط، ومن هزم من أمراء المسلمين في هذا التاريخ الطويل إنما هزموا لأنهم كانوا يستظلون برايات المطامع والأهواء والعصيان والأحقاد، ما استظلوا براية محمد. وكانوا يضربون بسيف البغي والإثم والعدوان، ما ضربوا بسيف محمد، إنه ما ضرب أحد بسيف محمد ونبا في يده سيف محمد! ".
وهذا حق سجلته القرون وشهدت به الأرض والسماء، وعندما ينتضي العرب هذا السيف فستكون من ورائه قوة الله التي تدك العدوان وتؤدب المجرمين، المهم أن نوفي الله فيوفي الله لنا، وأن نذكره فيذكرنا، وأن نلوذ به فيكمل جهدنا ويسدد خطانا.