بين صورتين

0 1036
  • اسم الكاتب:د. فهد بن صالح العجلان-مجلة البيان

  • التصنيف:تعزيز اليقين

ثمة صورتان مختلفتان تكشفان عن حالة تـثير الدهشة:

الصورة الأولى: يظهر فيها (سعيد بن المسيب والشعبي وسفيان والأوزاعي وأحمد ومالك والشافعي وأبو حنيفة وبقية أئمة الإسلام الكبار)، يخافون من الشبهات ويحذرون منها ويخشون من آثارها في مشهد عريض أثمر تراثا ضخما من الأقوال والمواقف؛ تتفاوت في ما بينها لكنها تتفق على أصل (التحذير من الشبهات والابتعاد عنها).

الصورة الثانية: يتحرك فيها كثير من المعاصرين، يتواصون فيها على البحث والاستغراق في الكتب والبرامج والحوارات المتخصصة في إثارة الشبهات وتحريك المسلمات، يشعرون بقدر من الارتياح لحالة التميز والانفتاح على الثقافات والرؤى المختلفة، لا يحفظ كثير منهم القرآن ولم يطلع جيدا على نصوص السنة وثقافتهم في الجملة محدودة في علوم الشريعة، ولعل ما لديهم في عدد من الأبواب الشرعية قد غرف من الأوعية المتخصصة في جمع الشبهات.

فيا له من تباين: (الإمام المتبحر في أصول الشريعة وفروعها) يخاف من الشبهات ويحذر منها و (الشاب محدود الإطلاع على علوم الشريعة) يقدم على الشبهات ويغرف منها ولا يفهم سبب التخوف من مثلها خاصة مع قدرته على التمييز واختيار الأصلح.

لا أظن أننا بحاجة للمفاضلة بين الصورتين؛ إنما الذي نريد أن نتمعن فيه ونكثر التأمل وإدارة الفكر حوله، هو: لماذا كان السلف يتحاشون الشبهات؟ وما سر هذا الحذر والخشية والفرار من الشبهات و أهلها ومواردها؟

إن أدنى قراءة لأي كتاب موسوعي يجمع آثار السلف يكشف لنا عن جملة من الأسباب التي كانت وراء هذا الموقف الشرعي من أولئك الأئمة، وهو يدل على أن خوفهم هذا كان قائما على وعي وفقه وعمق؛ فهو ترك واع وليس مجرد ترك محض.

إن أول سبب يجب أن ننفيه هنا هو أن خشية السلف من الشبهات كانت بسبب (ضعفهم عن مواجهتها) أو (عدم قدرتهم على تفكيك إشكالياتها) أو (كونها جديدة عليهم وعلى معارفهم؛ فلم يتمكنوا منها) أو أنه (راجع لطبيعة عصرهم وما توفر لديهم من معطيات محدودة) فكل هذا هراء وتخريف لا يستقر في عقل من سبر حال القوم أو اطلع على آثارهم؛ فإن (الأئمة) لما رأوا المصلحة في دخول معترك الشبهات ظهرت عبقرياتهم وقدراتهم البارعة في فهم الشبهة وتفكيكها وقلب طاولة الحجج على أصحابها، وانظر إن شئت: لانتفاض الإمام الدارمي على الجهمية في (نقض عثمان بن سعيد) و (الرد على الجهمية)، أو في الدلائل المهيبة في رد الإمام أحمد على الجهمية والزنادقة، أو طالع محمد ابن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة أو غيرها كثير.

إذن، لماذا كانوا يخافون من الشبهات ويحذرون منها ويشددون الموقف من أصحابها؟

أولا: لتعظيمهـم كلام اللـه - تعالى - وكـلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فكانوا ينفرون وتشمئز نفوسهم من أي كلام أو رأي يتقدم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فكأنهم يسمعون الله في جلاله يقول لهم: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات: ١]، فهذا إمام دار الهجرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعترض شخص فيقول: أرأيت لو كان كذا؟ فيقرأ عليه الإمام قوله - تعالى -: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63]، ثم قال: (أفكلما جاء رجـل أجـدل مـن الآخـر رد ما أنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم؟)[1].

وحين يستمتع بعض الناس لبعض الشبهات أو يتتبع مجالس أصحابها فإن الفضيل بن عياض لا يراها إلا خوضا في آيات الله. فيقول: (لا تجادلوا أهل الخصومات؛ فإنهم يخوضون في آيات الله)[2]. ولعله كان يستشعر فرقا قول الله - تعالى -: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [الأنعام: 68].

ثانيا: لرسوخ يقينهم وقطعهم بأنهم على الحق والصراط المستقيم باتباعهم لمنهج الكتاب والسنة الذي أخذوه عن مشايخهم عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالطريق واضح أمامهم؛ فلن يضل الصحابة وجمهور التابعين والأسلاف من بعدهم في قضايا الإيمان والاعتقاد ثم يعثر عليه مغمور قد جاء بعدهم بقرون.

فهذا الإمام الحسن البصري يأتيه رجل فيقول: أريد أن أخاصمك، فقال: (إليك عني فإني قد عزمت ديني؛ وإنما يخاصمك الشاك في دينه)[3].

إنه تفسير عميق لحقيقة كثير من المبتلين بالشبهات؛ فضعف يقينهم بأصولهم وثوابتهم هو الذي دفعهم للبحث يمنة ويسرة عن الأجوبة التي تمسك اليقين في قلوبهم، فكانوا مندفعين للاطلاع على الأفكار والرؤى الأخرى لعل الإنسان يجد فيها ما هو خير مما لديه، ويبقى الإنسان بهذا في حال شك دائم وحيرة مستمرة؛ فكل شيء قابل لأن يوجد ما هو خير منه، وهذا ما يجعل ثم ترابطا وثيقا بين (تتبع الخصومات) وبين (التحول والانقلاب) وهو ما نبه عليه السلف قديما. قال عمر بن عبد العزيز: (من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التحول)[4].

وقال عمرو بن قيس: (قلت للحكم بن عتبية: ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ قال: الخصومات)[5].

ثالثا: لأنهم كانوا مدركين لحقيقة الشبهات، فهي ليست مجرد معلومات يطلع عليها الإنسان ثم يقبلها إن شاء ويتركها إن شاء، بل قد تعلق بقلب الإنسان وهو كاره لها فتؤدي إلى هلاكه؛ فعن مجاهد قيل لابن عمر: إن نجدة يقول كذا وكذا. فجعل لا يسمع منه كراهية أن يقع في قلبه منه شيء[6].

ودخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء فقالا: (يا أبا بكر نحدثك بحديث؟ فقال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: تقومان عني أو قمت؟ فخرجا، فقال بعضهم: ما كان عليك أن يقرآ آية؟ فقال: إني كرهت أن يقرآ آية فيحرفانها فيقع ذلك في قلبي)[7].
وقال عبد الرزاق: (إن القلب ضعيف وإن الدين ليس لمن غلب)[8].

وأدخل ابن طاووس أصبعيه في أذنيه لما سمع أحدهم، وقال لابنه: أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد لا تسمع من كلامه شيئا قال معمر: (يعني أن القلب ضعيف)[9].

فموضوع الشبهات ليس معادلة رياضية قائمة على القدرة على نقضها أو الانهزام أمامها، بل لها تعلق وثيق بما في قلب المسلم: من خضوع وتعظيم وانقياد للشرع؛ لأجل ذلك جاء الامتنان بالهداية كثيرا في القرآن: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا} [النور: 21].

واستشعار هذا المعنى يجعل المسلم يلتجئ إلى الله أن يعصمه ويحفظه ويثبت قلبه، ولا يتعامل مع الشبهات على اعتبارها معلومات يستطيع الإجابة عنها، وانظر إلى جانب مشرق في هذا الفقه عند محمد بن النضر الحارثي حين يقول: (من أصغى سمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم أنه صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه)[10].

ومن فقههم هنا: أن الشبهة إذا دخلت القلب فإن المبتلى بها لا يرجع عنها؛ لأنه يراها هي الحق والصراط المستقيم، فيستمر فيها، ولأجل هذا قال سفيان: (البدعة لا يتاب منها)[11].

وكيـف يتوب منهـا وهو لا يقبـل فيهـا نصحا ولا وعظا ولا إنكارا، بل يستنكر ويستغرب ممن ينكر عليه.

رابعا: لأنهم كانوا ينصحون ويريدون الخيـر لهـذه الأمة ويكرهون لها كـل ما يضـرها في دينهـا ودنيـاها، ويعلمـون أن أكثـر النـاس لا يستطيعون التمييز بين الشـبهات؛ فمـن الأمانة والمسـؤولية عليهم - لأنهم حملة هذه الشريعة - أن يحذروا وينصحوا. قال قتادة: (إن الرجل إذا ابتدع بدعة ينبغي لها أن تذكر حتى تحذر)[12].

خاصة أن أصحاب الأهواء يستدلون كثيرا بالقرآن و (القرآن مهيب جدا؛ فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقا، وصار مظنة للاتباع على تأويل ذلك المجادل)[13] فكان من نصحهم أن حذروا من جدال المنافق بالقرآن؛ كما ورد ذلك عن عدد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

خامسا: لأنهم كانوا أهل جد في الحياة، يبحثون عن العمل والطاعة والعبادة وما فيه نفع في الدين والدنيا، وأما الكلام في ما لا ثمرة له فكان مذموما ممقوتا، قال جعفر بن محمد: (إياكم والخصــومات في الدين؛ فإنها تشغل القلب وتورث النفاق!)[14].

وقال مالك: (الكلام في الدين أكرهه كله ولا أحب الكلام إلا ما تحته عمل)[15].

هذا تلمس لمحاولة استخراج بعض ما في هذا الموقف من فقه وحكمة، وإن كنت أعترف بأنني ما زلت بعيدا عن الغوص في أغوار هذا الفقه العميق.

طبعــا، لا يمكــن أن ينتهــي هــذا الكلام إلا ويأتيه الاعتراض المشهور (هذه دعوة إلى الانغلاق، تحرم الإنسان نفسه من الانفتاح على المعارف والاستفادة من ثورة المعلوماتية الهائلة، كما أن صورة الانغلاق غير ممكنة في مثل هذا العصر؟).

كلا، فبإمكان المسلم أن ينفتح ويستفيد من المجالات المتعددة: في الاقتصاد، والسياسة، والإدارة، والتربية، والثقافة، والإبداع، والقانون... ولا حاجة لأن ينفتح فيفتح قلبه لتيار الشبهات ليفسده ويظلمه، كما أن حالـة الانفتاح لا تؤدي ضرورة إلى كسر خاصية الشموخ والاعتزاز بالأصول والثوابت لدى الشاب المسلم.

 

هوامش المقال

 


[1] انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي: 1/168.
[2]المصدر السابق، ص 1/146.
[3] المصدر السابق، ص 1/144.
[4] المصدر السابق، ص 1/144.
[5] المصدر السابق، ص 1/145.
[6] المصدر السابق، ص 1/138.
[7] المصدر السابق، ص 1/151.
[8] المصدر السابق، ص 1/152.
[9] المصدر السابق، ص1/152.
[10] المصدر السابق، ص 1/153.
[11] المصدر السابق، ص 1/149.
[12] المصدر السابق، ص 1/154.
[13] الموافقات للشاطبي: 2/283.
[14] انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي: 1/145.
[15] المصدر السابق، ص 1/168
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة