من حقوق (السفهاء) المجتمعية

0 1327

في هذه الآية المباركة {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا} [النساء: 5] يذكر الله صنفا من المجتمع يسمون السفهاء، فمن هم؟ وماذا يجب على المجتمع الإسلامي نحوهم؟

من هم السفهاء؟

السفه هو اضطراب في التفكير، واختلال في الرأي، وانحطاط في الخلق العام دون أن يشعر صاحبه بمستواه المتدني، وهو يدل على خفة النفس لنقصان العقل، ومن ذلك يقال زمام سفيه إذا كان كثير الاضطراب، ويقال ثوب سفيه إذا كان رديء النسج، ولذا يطلق على من يعترض على الله تعالى، أو يتقول عليه الأكاذيب ناسيا مقامه ونفسه غير قادر ربه حق قدره كما قال الله تعالى: {وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا} [الجن:4]. 

فالسفهاء صنف لا يمكن أن يخلو المجتمع من وجودهم، وقد يكونون من الأطفال وقد يكون من الرجال وقد يكونون من النساء، وهذا الصنف ينعم الله عليه بالمال، فيكون قد ملك أموالا آلت إليهم بالوراثة، أو بالعطية من بيت المال، أو من آخرين، إلا أنهم لا يحسنون التصرف في إدارة أموالهم لنقص عقل، وعمه تصرف، فتراهم لا يحسنون التصرف في المال، ومنهم بعض الموظفين غير الأمناء الذين يتصرفون في المال أو المسؤولية الملقاة على عواتقهم تصرفا غير راشد تبذيرا، أو عبثا، أو لهوا، أو إنفاقا مجحفا في غير اللائق من أمور الحياة، ولذا أوجب الله لهم عددا من الحقوق التي تعينهم على اجتياز دهاليز الحياة، وتأخذ بيدهم لئلا يصبحوا عرضة لعبث العابثين، أو ضحية لضعف تدبيرهم بين العالمين، وهذه الحقوق هي:

الحق الأول:{ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء:5]

فهذه الجملة المباركة تدل على حرمة إعطائهم أموالهم أو أموال غيرهم ليتصرفوا فيها، وذلك لأن إعطاءهم الأموال سواء أكانت أموالهم أم أموال غيرهم إفساد لهم، وللمجتمع حولهم، وتدمير لمقدرات المسلمين وثرواتهم، فقد تكونون بإعطائكم إياهم الأموال من أسباب دمارهم ودماركم، وذهاب أساس ما يقوم عليكم في حياتكم. فالسفهاء" الذين نهى الله المؤمنين أن يؤتوهم أموالهم، هم المستحقون الحجر والمستوجبون أن يولى عليهم أموالهم،

من المخاطب؟

أولياء الأزواج والأوصياء كما هو السياق إلا أن عموم اللفظ يدل على أن المخاطب جميع الأمة، فيدخل في ذلك قيام الأمة على الرقابة على من يتصرف بسفه في الأموال سواء أكان ماله الخاص، أم مال الأمة العام، فماذا أنت قائل فيما ترى من سفه مجرم مفسد في أموال الأمة هذه الأيام؟

فقارن هذا الحث الشديد على الاستثمار، وبيان أهمية المال، وخطورة الاقتصاد بما ورد في إنجيل متى" (19: 23) إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات [24] وأقول لكم أيضا إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله"، ويقول كما في (6: 24) منه: "لا تقدرون أن تخدموا لله والمال [25] لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم "إلخ. وفي (10: 9) منه: " لا تقتنوا ذهبا ولا فضة ".. ولذا تركت تلك الأمم كتابها إلا خرافات باقية في ذهنها ترضي بها غريزة التدين ففاقت وارتفعت، وتركنا كتابنا فانظر كيف حالنا.

والآية تدل على أن المنافع الكبرى للأمة لا تكون إلا إذا كانت الأموال في يد الراشدين يتصرفون بها بما لا يليق بها، فإذا تحكم فيها السفهاء والعابثون كانت سببا للدمار والخراب والإفساد في الأرض.

الحق الثاني: {وارزقوهم فيها}

من الرزق، فعدم إعطاء المال لا يعني تركهم دون قيام على ما يكفل لهم الحياة الكريمة، ويقصد بالعطاء هنا العطاء العام للأمور المحتاج إليها من الأشياء الحسية، والمعنوية، وأول ذلك الطعام كما قال في آية المرضعات: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233] أي أعطوهم ما يشعرهم بحرية التصرف دون أن يفضي ذلك إلى إعطائهم ما يزيد سفههم، وهذا يعني القيام عليهم بتوفير ما يحتاجون إليه، ومنعهم من التصرف غير المناسب إلى الوقت الذي يتمكنون فيه من التصرف في أموالهم، ومثال العطاء الممنوع في أيامنا هذه: إعطاء الولد الذي يعلم عبثه أدوات تزيد طيشه كالهاتف والسيارة ومعها مصروف الجيب دون حساب.

الحق الثالث: وجوب استثمار المال لهم:

فقد أمر الله في قوله: {وارزقوهم فيها} [النساء:5] فلماذا قال {فيها} ولم يقل منها؟

الجواب:

أولا: لأن المراد استثمارها وليس تنقصيها بالنفقة منها كما قال صاحب الكشاف: "أي اجعلوها مكانا لرزقهم، بأن تتجروا فيها، وتتربحوا؛ حتى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال"، وهل يكون ذلك إلا بالاستثمار الحقيقي للمال، والبحث عن وسائل تنميته، وهذا يقتضي البحث عن المال، وتثميره، وعدم إهلاكه، أو إعطائه لمن لا يدرك قيمته.

ثانيا: لأن المراد إعطاءهم منها حسب الحاجة تارة من ثمنها، وتارة من رأسها، وتارة من ربحها، كما قال سبرة بن عمرو الفقعسي:

                      نحابي بها أكفاءنا ونهينها    ونشرب في أثمانها ونقامر

الحق الرابع: {واكسوهم} وخصها من أنواع الرزق لتساهل الناس فيها.

الحق الخامس: {وقولوا لهم قولا معروفا} [النساء:5] أي قولوا لهم القول المعروف حسنه قبل أن ترزقوهم، وتكسوهم وبعد ذلك، والقول المعروف يدخل فيه:

1) تعليمهم ما يؤهلهم لاستلام أموالهم عند الرشد.

2) القول الحسن، فلا تغلظوا لهم القول، أو تقهروهم في الخطاب، أوتشعروهم بكونهم عبئا عليكم، بل قولوا لهم قولا معروفا حسنه وجماله.

وأمر الله بالقول المعروف:

- لأن العادة استهانة الناس بالسفيه، وعدم إظهار الاهتمام به.

- لأنه يسهم في إزالة السفه؛ لأن القول الجميل يؤثر في القلب، أما خلاف القول المعروف، فإنه يزيد السفيه سفها، والسوء قبحا، لأنه إن زجر خالف كما قيل:

                     إذا نهي السفيه جرى إليه    وخالف والسفيه إلى خلاف

فمن القول المعروف:

- الوعد الجميل بالبر والصلة، إذا حصل الربح أو الفلاح كما يشير إليه ابن عباس رضي الله عنهما.

- كل ما سكنت إليه النفس، واطمأنت، وشعرت بقيمتها ومكانتها.

- التعليم والإرشاد بالأسلوب المتعارف على تأثيره وقوته.

- ومن ذلك ما أشار إليه القفال: إن كان المولى عليه صبيا، فالولي يعرفه أن المال ماله، وهو خازن له، وأنه إذا زال صباه، فإنه يرد المال إليه، ونظير هذه الآية قوله: {فأما اليتيم فلا تقهر} [الضحى:9] معناه لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد، وكذا قوله: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} [الإسراء:28] وإن كان المولى عليه سفيها وعظه، ونصحه وحثه على الصلاة، ورغبه في ترك التبذير والإسراف، وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة