- اسم الكاتب:مجرّد إنسان-مجلة التوحيد
- التصنيف:تعزيز اليقين
بوجهه المضيء وطلعته البهية، جلس إلينا ذلك الشيخ المهيب، وفي الجلوس معه راحة للعين، وسلوة للفؤاد، وأنس للنفس.
كان رجلا وأي رجل!، أبت نفسه أن يكون رقما من البشر الذين تموج بهم الأرض دون أن يكون لهم شأن، فسمت نفسه إلى العلياء ليصبح نجما يشار إليه بالبنان، وقبسا يستضاء به، وتلك صنعة الإسلام بأهله.
وبقلوب واعية أنصتنا لحديث الشيخ عن قصته التي لم تزل ذاكرة التاريخ تعيها، ولسان التاريخ يرويها، قال الشيخ: قبل سنين عشر ذهبت إلى أمريكا لتفقد شؤون المسلمين هناك والقيام على حاجاتهم ورعاية مصالحهم، وكان برفقتي مجموعة من خيرة الشباب، وكان تلك الرحلة فرصة للقاء بإخوة نحبهم ويحبونا، وإن تناءت المسافات، وبعدت الأقطار، وترامت الأطراف.
وطفقنا ننتقل من ولاية إلى أخرى حتى حان وقت الرحيل، وانطلقنا إلى المطار وقطعنا تذكرة الدخول إلى الطائرة، ولم يبق لنا سوى انتظار سماع المنادي ينادي بضرورة الذهاب إلى البوابة الأخيرة.
ولما كان حضورنا مبكرا، ورغبة منا في تمضية الوقت فقد اقترح إلي أحد الأخوة أن نذهب إلى محل الآيسكريم لتناول شيء منه، وبالفعل توجهنا إلى ذلك المحل وطلبنا من العاملة فيه كأسا لكل واحد منا، وعندما أرادات العاملة أن تقدم الطلب استعانت بيدها اليسرى، فطلبت منها أن تعيد تقديمه إلينا بيدها اليمني، وقلت لها: "إن ديننا يعلمنا أن نستخدم اليد اليمني في الطيب من الأمور، وأن نستخدم اليسرى فيما دون ذلك"، لكن تلك الشابة التي تعودت على العبث أجابت الشيخ بإجابة تنطق سخرية وتهكما: "تناقشني الآن في أدب استخدام الأيادي، بينما أنتم إرهابيون تقطر جوارحكم دما؟!".
وهنا تظهر حكمة الشيخ وهدوءه إذ سألها: هل أنت نصرانية؟ أجابت باستغراب: نعم.
-هل تذهبين إلى الكنيسة كل أحد؟
-لا.
-فمتى كانت آخر مرة ذهبت فيها إلى الكنيسة؟
-ربما قبل أربعة أشهر.
-إذن فأنت لست متدينة في عرف النصارى؟
-لا بالطبع.
-وهل هناك من يذهب إلى الكنيسة كل أحد؟
-هذا أمر لا شك فيه.
-إذن فأنت تقرين أن من النصارى من هو متدين ومتمسك بالتعاليم ومنهم من ليس كذلك؟ -نعم.
-كذلك المسلمون!!.
أطرقت الأمريكية برأسها هنيهة ثم قالت: "لقد أعجبت بطريقة تفكيرك التي تتسم بالعقلانية ونجحت في إقناعي، فهل لي أن أستأذنك بربع ساعة من وقتك إذا أذن لي صاحب العمل؟" قال الشيخ لها: "ليس هناك ما يربطني الآن".
قامت العاملة من مكانها واستأذنت فجاءتها الموافقة، وجلس الشيخ وأمامه العاملة، وكان الموقف متسما بالغرابة!!، فلقد وضعت المرأة شروطا غريبة لمجرى الحوار، قالت: "لدينا من الوقت خمسة عشر دقيقة، وأتمنى أن تخبرني عن الإسلام في خمس دقائق، وعن المرأة في الإسلام في الخمس الثانية، وما فضل من الوقت فلنجعله عن أية استفسارات أحب طرحها".
يقول الشيخ: فوجئت بهذه القسمة لكني استعنت بالله عز وجل، وشرعت في الحديث عن الإسلام بما فتح الله علي، والحمد له سبحانه أن أجرى على لساني من القول ما لو أعددت لمثله لاستغرق وقتا طويلا، وبتوالي الدقائق توالت البينات والدلائل حتى انتهى الوقت المخصص، ثم تحول مسار الحديث إلى قضية المرأة في الإسلام وما الذي قدمه لها مع بيان ما لها وما عليها، وفي الخمس الأخيرة طرحت المرأة عددا من الأسئلة حول بعض الأمور التي تختص بالمرأة وحجابها، وعن علاقة المرأة بالرجل في ظل الإسلام.
عندئذ أشرق وجهها واستنار محياها، وأبدت إعجابها بطرح الشيخ وإجاباته، آملة أن يستمر التواصل بينهما، وقدم لها الشيخ كتيبا كان بحوزته يتحدث إجمالا عن الإسلام، ثم كتب لها على ظهر الكتاب بريده الإلكتروني مبديا استعداده للإجابة عن استفساراتها.
ومضى كل إلى سبيله، وتوالت الأيام فالشهور حتى استقبل بريد الشيخ الرسالة التالية: "من أمة الله فلانة بنت فلان إلى شيخنا الجليل، السلام عليكم ورحمة الله وبعد:
أتذكر العاملة التي حدثتها عن الإسلام قبيل بضعة أشهر فأيقضتها من سباتها؟ ودللتها على طريق الحق؟ ذلك هو ما صرت إليه، وأبشرك يا شيخ أنني أسلمت وتزوجت من رجل عربي، وحفظت شيئا من القرآن، وأعمل حاليا على تدريس أولاد المسلمين اللغة الإنجليزية على أن يدرسوني اللغة العربية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
إن أهم رسالة أحب أوصلها إليك وأتمنى أن تنقلها عني إلى كل المسلمين، هي أن لا تحقروا من دينكم شيئا؛ فو الله ما كان مفتاح قلبي إلى الإسلام سوى مسألة استخدام اليمين من الشمال، والله يرعاكم ويحفظكم".
تلك القصة بحذافيرها، لكن سؤالا ضخما ظل يلاحقني دونما فكاك، وهاجس تولد فيما لو تعرضت لذات الاختبار، ثم طولبت وفي عشر دقائق أن أتحدث عن الإسلام وعن سماحته، وخصائصه ومحاسنه وقضيته.
الأمر صعب للغاية!! لأنه اختزال لمنهج إلهي متكامل يتناول جميع مناحي الحياة، أيمكن لجرة قلم أن تفعله في أسطر قليلة؟
وبعد تفكير طويل وتأمل شديد بدا لي أنني سأتحدث كالتالي:
-سأتحدث أن الإسلام كشريعة ربانية قام على أسس ثلاث: تنظيم علاقة العبد مع الخالق، وعلاقة العبد مع نفسه، وعلاقة العبد مع غيره من المخلوقات.
-سأبين أن مبنى الدين على التوحيد الخالص في الاعتقاد والأقوال والأفعال، فمن جهة: فقد نقل البشر من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جهة أخرى: دعا معتنقيه إلى الإيمان بتفرد الخالق سبحانه وتعالى وأن لا إله إلا هو: مع اعتقاد اتصافه بصفات الجلال والكمال، وتنزيهه عن النقائص والعيوب، والعلم بأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل هناك وسطاء بين الخلق والخالق في عبادته والتوجه إليه، ومتى ما أذنب العبد ثم تاب فإن الله سيغفر له ما كان منه.
-سيأتي الحديث عن الاعتقاد في الرسول صلى الله عليه وسلم عن تضافر الأدلة الشاهدة على صدقه، وكونه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن الأنبياء كلهم أخوة نؤمن بهم جميعا ونحبهم غاية الحب، غير أننا لا نغلو فيهم فنرفعهم إلى درجة الألهوية.
-سأبين أن الله سبحانه وتعالى رضي للناس دين الإسلام، وجعل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مهيمنا على ما سبقه من الشرائع، مع إثبات ما جاء في الكتب السابقة من الحق، ورد ما احتوته من الباطل.
-لا بد من بيان ما امتازت به شريعة الإسلام من الشمولية والبقاء إلى يوم القيامة، والوسطية والتوازن: فلا غلو ولا إجحاف في أحكامه، مع بيان ما جاء به من رفع الحرج عن العباد، والقدرة على استيعاب متطلبات العصر، والتناغم الملفت للنظر بين تعاليمه وبين الفطرة السوية، "فلا نجده حث على شيء فقال العقل الراجح: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به، ولا أخبر بشيء فأحال العقل قبوله من الأوهام والأساطير".
-ثم يأتي الحديث إجمالا عن محاسن الأخلاق التي دعا إليها، كبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الخلق، والصدق والوفاء، والنهي في المقابل عن منكرات الأقوال والأهواء، كالخمر والزنا، والقتل والانتحار، والغش والخداع.
-وسوف أفرد المرأة بالحديث، وأبين كيف رفع الله مكانتها، وأقر لها من الحقوق، ثم أبين طرفا من ذلك، وكيف فرض الله عليها الحجاب ليحميها من عبث العابثين، لأن الإسلام ينظر للمرأة كدرة، "وهل يكون الدر إلا في الصدف؟".
وبعد: أشك أنني سأنجح في هذا الاختبار، لكنه جهد المقل، ولعل اله تعالى يجعل في قليل الكلام عظيم الفائدة.