- اسم الكاتب:إبراهيم بن عمر السكران*
- التصنيف:دراسات في الدعوة
في خطابنا الثقافي المحلي هناك استنزاف مكثف ومفاجئ لمفهوم الوسطية، ففي حقبة زمنية واحدة قصيرة رأينا منتديات إلكترونية نشأت باسم (الوسطية) ومقالات صحفية كثيرة تتحدث عن الوسطية، ورأينا من يستصرخ العلماء لبث وإشاعة خط الوسطية في الدين، وصار من المألوف أن تسمع وصفا لأحد دعاة الفضائيات أنه (شيخ وسطي)، بل رأينا أعمالا فنية تحاول تجسيد هذا الطلب وأن "الوسطي بلا وسطية"، وأعلن أحد كراسي البحوث إطلاق مشروع ضخم باسم "موسوعة أبحاث الوسطية".
حسنا.. أين المشكلة؟!
المشكلة أن "الوسطية" في القرآن ليست وسطية واحدة، بل هما وسطيتان: وسطية مطلوبة، ووسطية مرفوضة.
فمن الوسطية المطلوبة في القرآن، ذلك الدعاء القرآني المبهر الذي ندعو به يوميا عشرات المرات: {اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}(الفاتحة:6ـ7).. فانظر ـ بالله عليك ـ كيف ترسم هذه الآية خط الصراط المستقيم وسطا بين مسار المغضوب عليهم ومسار الضالين.
وكذلك قال تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}(الفرقان:67).. فجعل النقطة الوسط بين الإسراف والتقتير قواما أي: وسطية مطلوبة.
وهناك الكثير من شواهد الوسطية المطلوبة في القرآن.
لكن هل هذا كل شيء؟ هل هذه هي الوسطية في القرآن؟
لا.. ثمة لون آخر من الوسطية شرحه القرآن أيضا، يجهله أو يتغافل عنه كثير من المأسورين لسلطة الثقافة الغالبة.
فإن الله تعالى لما ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخصومهم، ذكر طائفة أخرى من الناس أرادت أن تنتهج منهج الوسطية بين الفريقين، فقال تعالى عن هذه الوسطية المرفوضة: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا }(النساء:143)
وهؤلاء أصحاب الوسطية المرفوضة تجدهم دوما يحاولون أن يحسنوا العلاقات مع أهل الحق وخصومهم، أو كما يقولون بلغتهم المفضلة (نبني جسور العلاقات مع جميع الأطراف)، كما قال تعالى عن هذا المظهر من مظاهر وسطيتهم: {ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها}(النساء:91).
الطريف في الأمر أن هؤلاء الوسطيين تلعب بهم النفعية و"البراجماتية" إلى مداها الأقصى، فإن كان النفوذ لأصحاب الدعوة كانوا معهم، وإن كان النفوذ لخصوم الدعوة كانوا معهم، كما قال الله تعالى: {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين}(النساء:141)
وقد وجد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من كفر بالكتب السماوية كلها، ووجد فيه من آمن بها كلها، ووجد الفريق الثالث وهو من توسط بين الفريقين، فآمن ببعض كلام الله وترك البعض الآخر، فهل كانت هذه وسطية محمودة.. ولقد ندد القرآن بهذه الوسطية بكل وضوح فقال: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}(البقرة:85)
ربما كان اللافت فعلا أن القرآن استعمل هذه الصيغة {بين ذلك سبيلا} في كلا نوعي الوسطية، فجعل مرة ابتغاء السبيل بين الأمرين "وسطية مطلوبة"، وجعل مرة أخرى اتباع السبيل بين الأمرين "وسطية مرفوضة".
ففي المرة التي استخدم فيها (ابتغاء السبيل بين الأمرين) في الوسطية المطلوبة يقول تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}(الإسراء:110).. وفي المرة التي استخدم فيها (ابتغاء السبيل بين الأمرين) وفي الوسطية المرفوضة يقول تعالى: { ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا}(النساء :150)
الفارق بين الوسطيتين
حسنا.. ما الفارق بين هاتين الوسطيتين في القرآن؟
الحقيقة: أن الوسطية المطلوبة في القرآن تجدها دوما "حق بين باطلين"، أما الوسطية المفروضة في القرآن فتجدها دوما "وسط بين الحق والباطل".
فهؤلاء الذين ينادون دوما بالوسطية الدينية، والوسطية في فهم الإسلام، إن كانوا يعنون بالوسطية وسطية "أصحاب محمد" في تفسير النص، والموقف من العلوم المدنية، والموقف من الكافر، ودور المرأة، وضوابط الحريات الشخصية، إلخ.. فهذه وسطية مشكورة محمودة.
أما إن كان المراد التوسط بين منهج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والفكر الغربي الغالب، فهذه وسطية مردودة مذمومة، وقد سبق أن شرح القرآن نظيرها فقال: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء}(النساء : 143)
والمراد أن المسجونين في معتقلات الثقافة الغالبة يجعلون تحريف الأحكام الشرعية لتكون وسطا بين فهم السلف والفكر الغربي؛ يجعلون ذلك هو الوسطية المحمودة التي جاء بها لقرآن، والواقع أن هذه هي الوسطية المردودة التي ذمها القرآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب: سلطة الثقافة الغالبة