قصة سمكتين

0 1192

توضح هذه القصة قضية الإيمان بالغيب ، وكيف يستدل العاقل بآثار الكون على وجود الخالق سبحانه وتعالى ، وبإخبار النبي – صلى الله عليه وسلم - على ما لا تدركه الحواس من عالم الملائكة والجن والشياطين ، وما يدور في عالم البرزخ ، وأحداث يوم القيامة ، وغيرها من الأمور .

المشهد الأول

تحت أمواج البحار .. وبين الشعاب المرجانية ..

عالم يموج بالحياة .. ألوان شتى من مخلوقات الله تسبح يمنة ويسرة تبحث عن رزقها وقوت يومها ..

وبين تلك الشعاب سمكتان توثقت بينهما رابطة الصداقة منذ الطفولة على الرغم من اختلافهما في كل شيء .. فالسمكة (غيداء) اشتهرت بين أقرانها بجمالها الباهر .. أما السمكة ( لبيبة ) فلم يكن لها ذلك الحظ الوافر من البهاء والروعة كما لدى صاحبتها .. إلا أن الله عوضها عن ذلك بذكاء وفطنة.

وفي صباح يوم هادئ ، خرجت السمكتان كعادتهما تتجولان بين الصخور والشعاب .. فإذا بهما تشعران بحركة واضطراب في مياه البحر .. ثم أعقبه هدوء نسبي يتخلله صوت حلقات المياه المتراجعة التي سببها ذلك الاضطراب .. وكان سبب ذلك الصخب اقتراب أحد القوارب الكبيرة ..

توقف القارب بعد دقائق بالقرب من الشعاب .. ومرت لحظات من الصمت الثقيل قطعها صوت ارتطام جسم غاص في الأعماق بسرعة .. كان ذلك الجسم قطعة من المعدن اتصل بها خيط رفيع يمتد إلى السطح .. وهناك فرع آخر لذلك الخيط كان يحتوي على طعم للأسماك ..

نظرت السمكة (غيداء) إلى الطعام أمامها فلم تتمالك نفسها من الاندفاع نحوه للفوز به .. لكن السمكة (لبيبة) أسرعت نحوها واستوقفتها قائلة :

- ما بك يا مجنونة ؟ إلى أين تريدين أن تذهبي ؟

- إلى الطعام بالطبع ، أتريدين أن تمنعيني من رزق ساقه الله إلي ؟

- لا تنخدعي بالمظاهر ؛ إنه فخ محكم لك ولأمثالك

- أي فخ تتكلمين عنه ، ذاك طعام شهي وفرصة لا تعوض

- لا تتعجلي في الحكم على الأمور ، إنك لا تدرين ما الذي سيصيبك لو حاولت الحصول على ذلك الطعام ، سيعلق الخيط بك ، وستحاولين التخلص منه دون جدوى ، ثم ستودعين مملكتنا إلى عالم قاس ورهيب ، فهناك فوق السطح صياد من بني البشر ينتظر قدومك بشغف ، ليس حبا فيك ، ولكن رغبة في أن تكوني طعاما له ولأولاده ، مصيرك يا زميلتي شواء على صفيحة ساخنة تتقلبين عليها.

نظرت السمكة (غيداء) إليها بسخرية وقالت : أي سخف تقولين ؟ أنا لا أرى شيئا مما تذكرينه ، ثم من قال لك أن وراء الأمواج التي تعلونا عالم آخر ؟ إنها أفكار ساذجة ابتدعها خيالك المريض.

وبصوت يملأه الشفقة قالت السمكة (لبيبة) : مسكينة أنت إن كنت لا تدركين وجود عالم علوي لا علم لنا به على وجه التفصيل ، فيه سماء وجبال ، وأشجار ونباتات ، وشكل آخر يختلف تماما عما ترينه حولك من مظاهر الحياة عندنا .

- ومن الذي ملأ رأسك بهذه الخيالات العجيبة التي لا دليل عليها ؟

- تريدين الدليل ؟!! إذا تعالي معي

 

المشهد الثاني

انطلقت السمكتان (غيداء) و (لبيبة) نحو منطقة نائية وموحشة من قاع البحر ..

كانت مليئة بالقوارب الغارقة التي علت أركانها الطحالب ، واستوطنتها بعض الكائنات الأخرى ..

ظلام دامس وسكون كانا يبعثان في النفس القشعريرة ، ويثيران مكامن الخوف .. وانتهى المسير بالسمكتين إلى داخل إحدى تلك القوارب.

قالت السمكة (غيداء) : ما الذي جعلك تأتين بنا إلى مثل هذا المكان المخيف ؟ ، فأجابتها صديقتها : اصبري قليلا يا أختاه ، فثمة أمور يهمك مشاهدتها!!.

ومن شق لآخر .. ومن غرفة لأخرى .. وقفت السمكتان أمام مجموعة من الأدوات التي يستخدمها البشر ، وقد علاها الصدأ .

نظرت السمكة (غيداء) حولها بدهشة وقالت : ما هذا الذي أراه؟ لا أذكر أنني شاهدت ما يشبه هذه الأدوات.

قالت السمكة (لبيبة) : هذه مجموعة من الأدوات التي صنعها البشر ، انظري إلى تلك القطعة المعدنية ؟ إنها الأداة التي يقطعون بها أغذيتهم ، وهذه هي صفيحة الشواء التي حدثتك عنها ، وفوقها أداة أخرى يسمونها ( شوكة) ، ويستخدمونها في تناول أطعمتهم ، وأنت بتهورك تريدين أن تكوني ذلك الطعام.

أطلقت السمكة (غيداء) نظرها نحو تلك الأطلال .. واستغرقت في تفكير عميق مدة من الزمن ثم قالت : على الرغم مما أراه ، إلا أنه يصعب علي تصديق ما تقولين ، كما أنه لا يمكنني الجزم بأن تلك الأدوات من صنع البشر ، ولعل لها تفسيرا آخر لم تبلغه أفهامنا بعد.

ردت عليها صاحبتها : يا عزيزتي ، إن أي عاقل تكفيه مثل هذه الدلائل على وجود العالم الآخر .. ودعيني أقدم لك برهانا جديدا على صدق ما ذكرته لك ، هلمي بنا نزور شخصية مهمة في مملكتنا ، وأرجو أن تجدي في زيارتها ما يجيب على تساؤلاتك .

 

المشهد الثالث

في ناحية من الشعاب المرجانية .. وقفت السمكتان (غيداء) و (لبيبة) أمام إحدى البيوت . نظرت السمكة (غيداء) إلى البيت ثم قالت لصاحبتها: ولكنك لم تخبريني من الذي سنقوم بزيارته ؟

فأجباتها قائلة : إنها السمكة (حكيمة) ، وهي من القلائل الذين أتيحت لهم فرصة الذهاب إلى ذلك العالم ثم العودة إلى الوطن .

فتحت السمكة (حكيمة) باب المنزل ، وتبادلت الترحاب مع ضيوفها ، حتى قالت السمكة (لبيبة) : آمل ألا نكون سببا في إزعاجك في مثل هذا الوقت ، ولكننا في الحقيقة سمعنا عن قصتك المدهشة في الصعود إلى سطح البحر ومشاهدة ذلك العالم المجهول ، فأحببنا سماع القصة منك مباشرة .

- بنياتي !! لقد أرجعتموني بالذاكرة إلى واقعة أليمة .. وأحداث لا تمحى من سجل أيامي .. ولولا فضل الله علي ولطفه بي لما كنت بينكم الآن ..

كان ذلك قبل وقت طويل من الزمن .. عندما كنت شابة في مثل سنكم .. أسبح بين الشعاب ، وألتقط الطعام من هنا وهناك ، وفي يوم من الأيام ، رأيت طعاما كبير الحجم .. جميل المنظر .. يتدلى من أعلى سطح البحر .. فاندفعت نحوه بسرعة ودون أدنى تفكير ..

وفجأة تغير حولي كل شيء .. فلا ماء ولا قاع ولا أسماك .. ولكن سماء وقارب وآلات غريبة ..

عندها أدركت أنني غادرت عالمي إلى العالم المجهول .. ثم أبصرت أمامي واحدا من أولئك البشر الذين سارعوا بانتزاعي من الماء .. وحررني من الخيط الذي علق بي ثم وضعني داخل سلة أنا ومجموعة من السمك .. كان الصياد يأتي بين الحين والآخر لينتزع إحدى تلك السمكات .. ثم ..

توقفت السمكة (حكيمة) عن الحديث ، وشخصت ببصرها لتسبح في بحر تلك الذكريات المؤلمة ، ثم قالت : رأيته يقوم بتقطيع السمكة وإخراج أحشائها .. ثم يلقيها دون رحمة في وعاء كبير تتصاعد منه الأبخرة .. فتملكني الهلع .. وأدركت أن مصيري هو ذات المصير ما لم أتمكن من الخروج من هذا المأزق ..

وهكذا حزمت أمري .. وجعلت أتحرك بسرعة وأحاول القفز .. حتى تمكنت من الخروج من تلك السلة .. أبصرني ذلك الصياد فأسرع للقبض علي .. ولكني استطعت الإفلات من يده والعودة إلى المياه من جديد .. والحمد لله على نعمة النجاة ..

لقد تركت تلك التجربة في نفسي جروحا غائرة وفي جسدي آثارا لا يمحوها الزمن .. وإن كان من نصيحة أقدمها لكما ، فهي أن تحذروا من ذلك العالم .. فكم من فضول قتل صاحبه.

 

المشهد الرابع

أمام ذلك الطعم من جديد .. وقفت السمكتان ترمقان المشهد في صمت .. حتى قالت السمكة (لبيبة) : والآن .. ما رأيك؟ هل اكتفيت بما شاهدته من الآثار ، وما أخبرتنا به السمكة (حكيمة)، على ما يحصل في ذلك العالم ؟

-بصراحة ، لم يكفني ذلك ، وأرغب في المزيد .

- أي مزيد تطلبين أكثر من ذلك ، لا تكابري يا صديقتي .

- لست مكابرة ، ولكن أخبريني بصراحة ، لماذا يجب علي أن أصدقك أنت وتلك السيدة ؟!!

- لأنني أريتك الآثار الدالة على وجود ذلك العالم ، والسمكة (حكيمة) أخبرتنا بمشاهدتها وتجربتها ، والعاقل يصدق الأخبار التي تصله من الثقات ، ويؤمن بالأدلة والقرائن التي يقف عليها.

تبدي السمكة (غيداء) عدم قناعتها فتقول لها السمكة (لبيبة) : هل رأيت سمكة القرش من قبل ؟

-بالطبع لا .

- كيف تؤمنين إذا بوجودها رغم أنك لم ترينها من قبل ؟ أليس السبب أن أجدادنا قد أخبرونا بوجودها ونحن نصدقهم ونثق بهم ؟.

-ولكني أرى أنه لا سبيل إلى اليقين بوجود ذلك العالم إلا بأن أجرب بنفسي الذهاب إليه.

- ذاك هو الجنون بعينه ، أتطلبين الخروج من عالمنا ومشاهدة العالم الآخر حتى تصدقينني؟ .. لن يفيدك ذلك شيئا .. نعم ، ستدركين حقيقة ذلك العالم .. لكن بعد فوات الأوان .. وسترين بنفسك ما يفعله البشر بك وبأمثالك .. ولن يفيدك وقوفك على الحقيقة حينئذ .. لأنك –وببساطة – لن يمكنك العودة إلى عالمنا!!.

- اعذريني يا زميلتي العزيزة ، لا تحاولي منعي من المحاولة ، فأنا مصرة على ذلك!!

- لك مطلق الحرية فيما تفعلين ، ولكن أرجو ألا تقولي بعد ذلك أنني لم أبالغ في نصيحتك وتحذيرك .

وانطلقت السمكة (غيداء) نحو ذلك الطعم فابتلعته ، وسرعان ما جرها الخيط إلى العالم الآخر ، عندها أبصرت بعينها كل ما سمعته من قبل ، وعاينت الأهوال بنفسها ، وتملكها الندم حين لا ينفع الندم .
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة