الخصم الأكبر

0 883
  • اسم الكاتب:د. فهد بن صالح العجلان-مجلة البيان

  • التصنيف:تعزيز اليقين

لطالما طرق أذني هذا المعنى، وكثيرا ما يعاد ترداده في مناسبات عديدة، هذا المعنى يتلخص في العبارة التالية: ( ضرورة تقديم خطاب عقلاني وبرهاني وعلمي لدعوة الناس إلى الإسلام، وأن سبب جفولهم عن الإسلام راجع إلى ضعف الخطاب الموجه إليهم).

ليس لي تحفظ كبيـر يمس صحة هذا المعنى، لكنني كلما سمعت هذه العبارة قفز إلى ذهني المناظرات العلمية والإعجاز العلمي فأجد أن دورها في دعوة الناس إلى الإسلام، وأثرها على أعداد الداخلين في الإسلام أضعف وأبعد بمراحل كثيرة من دور الموعظة الحسنة أو التعامل اللطيف أو الخطاب العقلي الميسر، وهو ما جعلني أشك في حقيقة هذه الضرورة التي تكرر علينا في كل حين، ليس انتقاصا لأهمية الحديث العقلاني والعلمي أو شكا فيه؛ وإنما أشعر أنه يتضخم أمام ناظرينا فيتشكل بأكبر من صورته الحقيقية.

عدت إلى كتاب الله - تعالى - وبدأت في قراءته من فاتحته لأتلمس الطريق الصحيح في التعامل مع هذه الأمر، ولم أكد أنهي بعض أجزاء منه حتى ذهلت من الحقيقة التي ظهرت لي بجلاء، لم تكن جديدة علي ولا أظنها تخفى على أحد؛ لكن ميزة النظر في القرآن أنه يرتب الأولويات في عقل المسلم ويعيد تشكيل نظرته إلى الأمور لتبدو في وضعها الصحيح.

 

الحقيقة الأولى
بدت لي حقائق شرعية ناصعة البيان يجب أن تكون أمام أنظارنا في قضية الإيمان: أن الهداية إلى الإسلام نعمة ومنة من الله على أهل الإسلام {كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم} [النساء: 94]، يختار الله لها و {يختص برحمته من يشاء} [البقرة: 105] وأمرها إلى الله فـ {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} [البقرة: 272]؛ فلن يدخل أحد في الإسلام إلا بعد أن يشرح الله صدره لذلك {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} [الأنعام: 125]،وهذا ما يجعل من ثناء أهل الإيمان قولهم {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} [الأعراف: 43]، حتى من دخل في الإسلام فلن يستقيم على أحكام الشريعة إلا بفضل من الله {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} [النساء: 83].

 

الحقيقة الثانية
وهذه الحقيقة توصلنا إلى أن الله يحول دون وصول بعض الناس إلى الإسلام؛ فلا يتمكن من فهم الحق ولا ينشرح صدره له {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة: 7]، {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} [الإسراء:46]، {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا} [الكهف: 101]. وجاء في ذلك التحذير المخيف {واعلموا أن الله يحول بين الـمرء وقلبه} [الأنفال: 24].

فإذا لم يرد الله هداية إنسان إلى الإسلام فلن يملك أحد له شيئا {أتريدون أن تهدوا من أضل الله} [النساء: 88]، وقال نوح مخاطبا قومه: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} [هود: 34]؛لأن القاعدة الشرعية الراسخة في نفوس المسلمين جميعا أنه {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا} [المائدة: 41]؛ فهم محجوبون عن الهداية، بل يصرفهم الله عنها لـما علم من حالهم {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الـحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا} [الأعراف: 146].

هاتان الحقيقتان تزيحان الستار عن ناظري المسلم بأن فهم الإسلام والاقتناع به لا يعني الدخول فيه، وأن من يرفض الدخول في الإسلام فليس لأنه لم يفهم الدليل ولم يقتنع به، لكن ثم أمر آخر فوق هذا كله، هو إرادة الله ومشيئته؛ فالهداية ليست مرتبطة آليا بالدليل العقلي؛ فإذا رفض شخص الإسلام بحثنا عن المزيد من الدلائل العقلية واجتهدنا في الإقناع تلو الإقناع، بل هي هداية وانشراح قبل ذلك وبعده، وهذا يضع (الدليل العقلي) في مكانه الصحيح فلا يطغى ويتضخم ليربك المفاهيم والأولويات الشرعية.

 

الحقيقة الثالثة
أن الدلائل العقلية ليست على الوجه الذي يريده الكفار؛ فإنهم يقترحون دلائل معينة فلا تحقق لهم {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك} [هود: 12]، وطالبوا {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا 90 أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا} [الإسراء: 90 - 91]؛ فهذه دلائل طلبوها حتى يقتنعوا بالإسلام فلم تحصل لهم، وهو ما يعني أن الدلائل العقلية لا يجب أن تكون بحسب ما يريد الكافر.

 

الحقيقة الرابعة
أن الكفار يعتقدون أنهم على حق {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون} [الأعراف:30]، {الذين ضل سعيهم في الـحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} [الكهف: 104]، ولديهم قدرة على المحاججة والمجادلة عن باطلهم {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} [الأنعام: 121]، {ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الـحق} [الكهف: 56].

فبقاء الكافر معتقدا أنه على حق ويسير في طريق صحيح، سنة كونية أرادها الله ولا مبدل لما أراد؛ فالإنسان ليس بقادر على أن يقدم دليلا عقليا يكون قاطعا لأي أحد ولكل مجادل ويكون حال منكره كحال من ينكر الأرض التي يمشي عليها، بل سنة الله أن يبقى أكثر الناس على ضلال {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103].

 

الحقيقة الخامسة
أن سبب ضلال كثير من الناس ليس لعدم فهمهم لدلائل الإيمان والتوحيد، بل لما في نفوسهم من أهواء وأدواء: وفي (القرآن) ذكر لكثير من هذه الأهواء: المال {ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} [البقرة: 41], والتلبيس {ولا تلبسوا الـحق بالباطل وتكتموا الـحق وأنتم تعلمون} [البقرة: 42], والإعراض {ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون} [البقرة: 83], والحسد {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} [البقرة: 109],والتعصب للآباء {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا} [يونس: 78]، وحب الدنيا {زين للذين كفروا الـحياة الدنيا} [البقرة: 212]... وغيرها كثير.

 

الحقيقة السادسة
قيام الدنيا على الابتلاء والتمحيص: فمن سنة الله أن يجري على أهل الإيمان الابتلاء والاختبار {أم حسبتم أن تدخلوا الـجنة ولـما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء} [البقرة: 214], وقد بين الله حكمة هذه السنة الربانية {ما كان الله ليذر الـمؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الـخبيث من الطيب} [آل عمران: 179]، فقضية الإيمان ليست مسائل عقلية تفهم أو لا تفهم، بل تحتاج النفوس مع ذلك إلى اختبار وامتحان ليظهر الثبات والصبر وتقديم مراد الله، وهذه معان شرعية عظيمة هي أسمى بكثير من فهم الدليل أو عدم فهمه؛ ولذلك يتكرر في القرآن وصف المؤمنين بالتزكية والثبات والإخبات والانقياد، وهو ما يعني أن الإيمان ليس فهما للدليل بل خضوع وانقياد وتسليم لله رب العالمين، وهو ما تأنف عنه كثير من النفوس ولا يكفي فهمها للدليل لتصل إلى هذه المنزلة.

ما الذي نخلص إليه بعد استحضار هذه الحقائق القرآنية؟
نخلص إلى أن موضوع الإيمان ليس قضية عقلية صرفة، تتوقف على مدى قدرتنا على تقديم خطاب عقلاني مذهل، وأن كثرة المعادين للإسلام وعلو أصواتهم ليس ناتجا بالضرورة عن ضعف الدليل العقلي الذي يسمعونه من المسلمين، بل وراء ذلك أسباب عدة تفتح لذهن الداعية فضاء واسعا للتفكير في كيفية الدعوة إلى الإسلام؛ فلا يغلق ذهنه على صورة واحدة تتضخم في الذهن بسبب عوامل خارجية. إن هذا - قطعا - ليس تقليلا من الدلائل العقلية أو تهوينا من قدرها، بل إن القرآن مليء بالبرهنة والاستدلال العقلي واستحثاث أهل العقول ونعي على أهل الشرك تعطيلهم لعقولهم.

إن حضور هذه الحقائق يفتح أمام أنظارنا النتائج التالية:
1- أن الخصومة الحقيقية والمشكلة الأكبر التي تصد الناس عن الإسلام ليست الدلائل العقلية بقدر ما هي (الأمراض) التي تسكن النفوس: من كبر وحسد وحب للمال والجاه، أو التعصب لـما عليه المجتمع والإرث، أو الإعراض وحب الدنيا، ولعل هذا يفسر أن أكثر الداخلين في الإسلام ينقادون إليه من دون حاجة لخطاب ذي مواصفات عالية في البرهنة والعقلانية.

2- أهمية العناية بالوسائل التي تعالج أمراض النفوس وأدوائها: فالوعظ، والترغيب، والترهيب، والتذكير بالبعث والمصير له دور عظيم في دخول الناس في دين الله أفواجا، وسيلفت نظرك حين تقرأ دلائل القرآن أن الخطاب الوعظي حاضر بقوة في مجادلة الكفار، فتأمل في الآيات التالية : {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والـحجارة} [البقرة: 24]، وقوله - سبحانه -: {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171]، وقوله {وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة: 37] بل إن من حكمة الله في إرسال الآيات {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} [الإسراء: 59]؛ فهذا خطاب الله الذي خلق هذه الأنفس ويعلم ما تحتاج إليه، وهو معنى يغفل عنه كثيرا من يغرق في العناية بالدلائل العقلية فيكون جل تفكيره وحديثه في محاولة الإبداع في استخراج الدلائل التي تقنع المخالف - وهو مطلوب حسن - لكنه يغفل عن أثر الوعظ في هداية الناس.

3- الاعتدال في تقرير وتقديم الدلائل العقلية: فدورها أن تبين الحق للشخص وليس أن تدخله في الإسـلام، وحينما لا ينشرح صدره للإسلام فإنه قادر على المجادلة وإثارة الملفات المختلفة إلى ما لا نهاية، وكثيرا ما تختفي الأهواء والأمراض والحظوظ الشخصية في قوالب الدلائل العقلية التي يقدمها المجادل، فتكون غلافا لأهواء النفوس من حيث يشعر أو لا يشعر؛ ولهذا يكثر في خطاب القرآن تسمية حجج الكفار بالأهواء {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم} [البقرة: 145]بل كل من يعرض عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو متبع لهواه {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} [القصص:50]، وحين يكون بعض الناس بحاجة للدلائل العقلية المعقدة والمركبة والدقيقة فيجب أن يكون ذلك بحسب الحاجة؛ لأن أكثر الناس في غنى عنها.

4-مراعاة النفوس التي يعرف من حالها الصدق والبذل وحب الخير للناس أو الضعفة منهم: فمثل هؤلاء أقرب لأن تكون نفوسهم مهيأة لقبول الحق {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} [الأنفال: 23]؛ لأن سوء بعض الناس يكون سببا لأن يحرمه الله من الهداية، فكما قال - تعالى -: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5]، حتى لو جاءتهم الدلائل العقلية الواضحة البينة فإنهم لا يستفيدون ولا ينتفعون، بل قد يزيدهم سماع الحق ضلالا وفسادا كما قال - تعالى -: {ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا} [الإسراء:60]، وقال - سبحانه -: {ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا} [الإسراء: 41]،بل حتـى لــو أتاهـم الدليــل عيـانا بيـانا وتحقــق لهم حسـب ما يريدون فلن ينتفعـوا به {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون 14 لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} . [الحجر: 14 - 15]
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة