- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:من بدر إلى الحديبية
في شوال من العام الثالث للهجرة النبوية وبعد أن انتهاء القتال في غزوة أحد، ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه يتفقدوا أحوال الجرحى والشهداء، فرأوا كثيرا من خيرة الصحابة رضوان الله عليهم قد فاضت أرواحهم، ومثل بجثث بعضهم، ومن هؤلاء: حمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جحش، وحنظلة بن أبي عامر، وسعد بن الربيع، ومصعب بن عمير، وعبد الله بن حرام ، وعمرو بن الجموح رضي الله عنهم .. وقد سجلت غزوة أحد لبعض الصحابيات مواقف إيمانية رائعة في صبرهن وتقبلهن مصابهن في أهليهن الذين استشهدوا في هذه الغزوة، ومن الأمثلة على ذلك:
صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها:
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : "لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى، حتى إذا كادت أن تشرف على القتلى، فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم، فقال: المرأة، المرأة، فتوسمت (تبين لي بالفراسة والنظر) أنها أمي صفية، فخرجت أسعى إليها فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، فلدمت (دفعتني) في صدري، وكانت امرأة جلدة (صلبة وقوية النفس)، قالت: إليك لا أرض لك، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك (يأمرك ألا تذهبي)، فوقفت وأخرجت ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما، فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل قد فعل به كما فعل بحمزة، فوجدنا غضاضة (عيبا) وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له) رواه أحمد وصححه الألباني.
فوائد:
ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة، المرأة) أي: أوقفوها وامنعوها، فيه دلالة على رحمة وحكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لكراهته أن ترى صفية رضي الله عنها أخاها حمزة رضي الله عنه وقد مثل المشركون به ووببعض أصحابه، وهذا معنى تربوي شديد الأهمية، ألا وهو أثر المشاهد الدموية التي تخلفها الحروب على نفوس مشاهديها من النساء والأطفال..
ـ صبر صفية رضي الله عنها رضي الله عنها على مقتل أخيها حمزة رضي الله عنه وما وقع له من التمثيل بجثته بعد مقتله، وامتثالها لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم طاعته على عواطفها وهوى نفسها، إذ لما أراد ابنها منعها من الذهاب لرؤية حمزة رضي الله عنه لم تكترث به، بل ضربته على صدره، لكن بمجرد أن قال لها ابنها: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك) توقفت على الفور لما علمت أنه أمر نبوي، فيالها من صابرة محتسبة، ويالها من مطيعة مستجيبة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ـ المساواة، إذ لم يحدث تفضيل من الصحابة لحمزة رضي الله عنه لمكانه من النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكفنوه بالثوبين اللذين أعطتهما صفية رضي الله عنها لهم ليكفنوه بهما، إذ لما وجدوا بجانبه أحد الأنصار وقد مثل المشركون بجثته كما مثلوا بحمزة، استحيوا أن يكفنوا حمزة ويتركوا الأنصاري من غير كفن، فقالوا: (فوجدنا غضاضة (عيبا) وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له)، وتلك ثمرة من ثمار التربية النبوية لأصحابه رضوان الله عليهم على معنى المساواة.
كبشة بنت رافع رضي الله عنها:
ذكر الواقدي وغيره أن أم سعد بن معاذ ـ كبشة بنت رافع ـ رضي الله عنها، أقبلت تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وقف على فرسه، وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه، فقال سعد: (يا رسول الله! أمي!، فقال: مرحبا بها، فدنت حتى تأملت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أما إذ رأيتك سالما فقد أشوت (هانت) المصيبة، فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمرو بن معاذ ابنها، ثم قال: يا أم سعد، أبشري وبشري أهليهم: أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا، وقد شفعوا في أهليهم، قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: يا رسول الله ادع لمن خلفوا فقال: اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا).
المرأة الدينارية رضي الله عنها:
في السيرة النبوية لابن هشام، والبداية والنهاية لابن كثير، ودلائل النبوة للبيهقي: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقت أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، قال: فأشير لها حتى إذا رأته قالت:كل مصيبة بعدك جلل (صغيرة)). وفي رواية للطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة، وقالوا: قتل محمد، حتى كثر الصراخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار متحزمة، فاستقبلت (أخبرت بمقتل) بأبيها، ابنها، وزوجها، وأخيها، لا أدري أيهم استقبلت به أولا، فلما مرت على آخرهم قالوا: أبوك، زوجك، أخوك، ابنك، فتقول: ما فعل رسول الله؟، يقولون: أمامك، حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب).
المواقف التي حدثت في غزوة أحد مع صفية وأم سعد بن معاذ والمرأة الدينارية أعطين بها دروسا للأمة ـ رجالا ونساء ـ في مدى صبرهن على موت واستشهاد ذويهن، وحبهن الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم، وطاعتهن له وامتثالهن لأمره، ولذا فمع ما في هذه الغزوة من جراح وآلام، وشهداء بلغوا سبعين شهيدا، إلا أن فيها من الفوائد والحكم، والدروس والعبر الكثير، التي ينبغي الوقوف معها للاستفادة منها، قال ابن حجر: "قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة".