نزول المطر بدعاء خيْر البَشر

0 1851

أيد الله سبحانه وتعالى أنبياءه الكرام بمعجزات عظيمة، بيانا لفضلهم وعلو منزلتهم، وبرهانا على نبوتهم وصدقهم، وسبيلا لإقامة الحجة على أقوامهم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو أكثر الأنبياء دلائل ومعجزات، قال ابن تيمية: "ومعجزاته تزيد على ألف معجزة، مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات"، وقال ابن حجر: "وذكر النووي في مقدمة شرح مسلم أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تزيد على ألف ومائتين".
وهذه المعجزات بعضها ثابت بالقران الكريم نصا: كالإسراء، وانشقاق القمر، أو بالإشارة إليه كالمعراج، وبعضها ثابت بالأحاديث الصحيحة المروية في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن والسيرة النبوية.. ومن هذه الدلائل والمعجزات التي أعطاها الله عز وجل لنبينا صلى الله عليه وسلم، إكراما له وبيانا لعلو منزلته وقدره، وتأكيدا على صدقه ونبوته: سرعة استجابة الله لدعائه لنزول المطر، والأمثلة على ذلك من السيرة النبوية كثير، ومنها:

ـ في رمضان من السنة السادسة للهجرة النبوية، أجدب الناس جدبا شديدا, فاستسقى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل المطر، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس (أول طلوع شعاعها)، فقعد على المنبر فكبر وحمد الله عز وجل، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم (وقت ظهوره)، وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين، ثم رفع يديه، فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب ـ أو حول ـ رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل، فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن، ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: أشهد أن الله على كل شيء قدير وأني عبد الله ورسوله) رواه أبو داود وحسنه الألباني.

نزول المطر في غزوة تبوك:

في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة النبوية، توجه الجيش الإسلامي بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وفي أثناء سيرهم أصبح الناس ولا ماء لهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا ربه، واستسقى لمن معه من المسلمين، فأرسل الله عز وجل سحابة فأمطرت. فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: حدثنا عن شأن ساعة العسرة (غزوة تبوك) فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ (حر) شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع (من شدة العطش)، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه (بقايا الطعام في معدته) فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا! فقال: أو تحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع رسول الله يديه إلى السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء (آذنت بمطر) فأظلت ثم سكبت، فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر) رواه ابن حبان وصححه الألباني.

ومن هذه الأمثلة لسرعة نزول لمطر بدعاء سيد وخير البشر صلى الله عليه وسلم ما رواهالبخاري في كتاب "الاستسقاء" عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة (قطعة من الغيم) وما بيننا وبين سلع (جبل قرب المدينة) من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس (ما يتقي به ووجه الشبه الاستدارة والكثافة لا القدر)، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس ستا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة- يعني الثانية -، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام (الرابية المرتفعة من الأرض) والظراب (صغار الجبال والتلال)، وبطون الأودية، ومنابت الشجر، قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس، قال شريك: سألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ فقال: ما أدري) رواه البخاري.
قال النووي: "فيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في إجابة دعائه متصلا به، وفيه أدبه في الدعاء".

لقد اشتكى الأعرابي قلة المطر، وما نتج عن ذلك من هلاك المواشي والزروع، وجوع العيال لعدم وجود ما يتيعشون عليه من الأقوات، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم دعاء ربه حتى ينزل عليهم المطر، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه يدعو ربه سبحانه بالمطر، ولم يكن في السماء سحاب مجتمع ولا متفرق، ولا أي شيء من علامات المطر، كما ورد في بقية روايات الحديث، فهاجت ريح شديدة، أنشأت سحابا ثم اجتمع، فصار من كثرته كأمثال الجبال، واستمر المطر أسبوعا، ولما اشتكى الأعرابي من الجمعة المقبلة خشية الهلاك من كثرة المطر، دعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون المطر على الآكام ومنابت الشجر، فاستجاب الله دعاءه.

هذا الحديث والموقف النبوي من أعظم دلائل دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وشاهد على صدقة وعلو منزلته عند ربه، حيث استجاب الله دعاءه، وأنشأ السحاب وأمطرت السماء، ليس مع انتهاء الدعاء ولكن أثناء الدعاء، وتلك الاستجابة الإلهية لا تكون لمن يدعي النبوة ويفتري على الله الكذب، فإن الله لا يؤيد الكاذب الذي يلجأ إليه، بل يهلكه ويفضحه، كما قال موسى مخاطبا سحرة فرعون: {قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى} (طه:61).
ومن فوائد هذا الحديث والموقف النبوي ـ كما ذكر ابن حجر وغيره ـ:
ـ أنه علم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهد على صدقة، وقرب مكانه من ربه، واستجابته لدعائه.
ـ الإمام راع ومسؤول عن رعيته ، فيلزمه حياطتهم وإجابتهم فيما سألوه مما لا بد لهم منه.
ـ حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان لا يرد من سأله حاجة.
ـ استحباب طلب انقطاع المطر عن المنازل إذا كثر وتضرروا به.
ـ أدب النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه العظيم، لأنه لم يدع الله ليرفع الغيث جملة لئلا يرد على الله فضله وبركته وما رغب إليه فيه، وسأله إياه، بل قال: (اللهم حوالينا ولا علينا).
ـ مشروعية الاستسقاء في خطبة الجمعة.
ـ جواز الدعاء ولو كان إلى غير القبلة، واستقبالها في الدعاء ـ في غير الخطبة ـ أولى وأكمل.
ـ مشروعية رفع اليدين في الخطبة في الاستسقاء خاصة دون غيره من الدعاء، لأنه لم يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام رفع اليدين إذا دعا في الخطبة.
ـ جواز مكالمة الإمام في الخطبة للحاجة، وأنها لا تنقطع بالكلام، ولا تفسد جمعة المتكلم مع الإمام.
ـ جواز سؤال الدعاء من أهل الخير، ومن يرجى منه القبول، وإجابتهم لذلك.
ـ رحمة الله تعالى بعباده، وإغاثته لهم إذا استغاثوا به وصدقوا في اللجوء إليه..
ـ لا يستغاث ولا يدعى، ولا يطلب منه تفريج الكربات، وإزالة الشدائد إلا الله تعالى، فقد سأل الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله تعالى لهم أن يغيثهم.

لا يمكن لمن اطلع على السيرة النبوية أن يتجاهل الدلائل النبوية والمعجزات الحسية الكثيرة والصحيحة للنبي صلى الله عليه وسلم، والتي شهدها الصحابة الكرام بأعينهم، والتي منها: سرعة استجابة الله لدعائه لنزول المطر، مما يجعل المسلم على يقين كامل بأنه صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، قال ابن تيمية: "ومعلوم أن من عوده الله إجابة دعائه، لا يكون إلا مع صلاحه ودينه، ومن ادعى النبوة لا يكون إلا من أبر الناس إن كان صادقا، أو من أفجرهم إن كان كاذبا، وإذا عوده الله إجابة دعائه، لم يكن فاجرا، بل برا، وإذا لم يكن مع دعوى النبوة إلا برا، تعين أن يكون نبيا صادقا".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة