صلاة الأنبياء في عالم البرزخ

0 1941

يسميها العلماء رأس العبادات، والتعبير النبوي الأوفق والأدق: (رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة)، ولا شك أنها أظهر الشعائر الدينية وأرجى الطاعات الربانية التي تدل على علاقة الإنسان بربه، وخضوعه له، واضطراره إليه.

ولا شك أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كان لهم من هذه الصلوات النصيب الأوفر والعناية الأعظم لأنهم أقرب عباد الله إلى الله، وليس المراد من الحديث أن نشرع في بيان مكان هذه العبادة في نفوس الأنبياء والرسل، ولكنها فرصة للحديث عن علاقة خاصة قائمة بينهم وبين الله، ولكن بعد مفارقة الدنيا، ودخول عالم البرزخ، ولولا الوحي الصحيح الدال عليها ما اهتدينا إلى هذه الحقيقة الدينية، والعقيدة الشرعية.

معاني الصلاة

إذا أردنا أن نفهم معنى صلاة الأنبياء، فلا مناص من العودة إلى كتب اللغة، عندها سنجد أن الصلاة في أصلها اللغوي: الدعاء، كما قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: " الصلاة وهي الدعاء. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليأكل، وإن كان صائما فليصل) رواه مسلم. أي: فليدع لهم بالخير والبركة" وقال الراغب: "هي الدعاء والتبريك والتمجيد، يقال : صليت عليه، أي دعوت له". وهذا الاستعمال اللغوي لا يزال معمولا به ويفسر عددا من النصوص الشرعية، فهذا هو المعنى الأول المراد من الصلاة.

أما المعنى الثاني للصلاة: فهي عبادة الله سبحانه وتعالى بأقوال وأفعال خاصة، وذلك يعني أن لها ظاهرا يتعلق بالبدن كالقيام والجلوس، والركوع والسجود، وبالنسبة لنا نحن المسلمين: مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.

ويبدو أن الصلاة المنسوبة للأنبياء في قبورهم، ليست مجرد التمجيد والتعظيم لله تعالى، وخشيته وحمده، وغيرها من المعاني المتعلقة بالباطن وبالقلب، بل هي عبادة بدنية مخصوصة، يدل عليها حديث صلاة موسى عليه السلام في قبره والذي سيذكر في قسم الأدلة، وفيه وصف صلاته عليه السلام بأنه قائم يصلي في قبره، والقيام عبادة بدنية خاصة، بل الأشبه أنها توافق صورة صلاتنا المعروفة لدينا، ويمكن الاستئناس بصلاة النبي –صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء ليلة أسري به.

الأدلة

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الأنبياء - صلوات الله عليهم - أحياء في قبورهم يصلون) رواه البزار أبو يعلى والبيهقي وابن منده.

وعنه رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره) رواه مسلم وفي رواية: (لما أسري بي مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره) رواه أحمد.

والظاهر أن هذه الصلاة ليست خاصة بموسى عليه السلام، فقد ثبتت عن جماعة من الأنبياء عليهم السلام، بدليل ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (..وقد رأيتني في جماعة الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي، وإذا إبراهيم قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم -يعنى: نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم) رواه مسلم.

الدلالة

لا شك أن لهذه الصلاة دلالة عظيمة على خصوصية العلاقة القائمة بين الأنبياء عليهم السلام وبين ربهم تبارك وتعالى؛ فإن من المقرر انتفاء التكليف وانتهاء العمل بمفارقة الروح للبدن، إلا أن أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليست بمعطلة عن العبادات الطيبة والأفعال المباركة، بل هم مشغولون في قبورهم أيضا كما كانوا مشغولين حين حياتهم.

وبهذا يكون عمل الأنبياء من جنس تشريف الملائكة بالعبادة، فالملائكة ليسوا بمكلفين، بل هو نعيم محض يشبه تنعم أهل الجنة بالتسبيح رغم انقضاء الدنيا التي هي دار العمل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " هذه الصلاة ونحوها مما يتمتع بها الميت ويتنعم بها كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح ، فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهم الناس في الدنيا النفس ؛ فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل ، بل نفس هذا العمل هو من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به ".

هل يعارض ذلك العقل؟

قد يستشكل البعض قيام الأنبياء عليهم السلام بالصلاة في قبورهم رغم مفارقة الروح لأبدانهم، أو العجز عن الجمع بين إثبات هذه الصلاة وبين قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) رواه مسلم.

أما الجواب عن الأولى بأن يقال: إن الكلام عن أمور العقائد وإثبات قضاياها مرهون بصحة الخبر، ونحن نستقي العقائد من الأخبار، فمتى صحت لزم القول بمضمونها، والإيمان بها كما هو شأن المؤمن في المسائل العقدية.

وقد خط الأئمة في ذلك منهجا راسخا تجاه ما جاءت به النصوص الصحيحة وضرورة التسليم لها، فهذا الإمام ابن حجر المكي يقول: "وما أفاده –أي الحديث- من ثبوت حياة الأنبياء حياة بها يتعبدون ويصلون في قبورهما مع إستغنائهم عن الطعام والشراب كالملائكة أمر لا مرية فيه"، وذكر البيهقي أن صلاة الأنبياء في أوقات مختلفة وفي أماكن مختلفة لا يرده العقل وقد ثبت به النقل، فدل ذلك على حياتهم.

ولا شك أن إثبات هذه الصلاة لا تترتب عليه استحالة عقلية، لأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، فجائز عقلا أن تكون للأنبياء صلاة خاصة لا ندرك طبيعتها ولا يمكن رصدها منا نحن معاشر الأحياء، فدار البرزخ هي حياة أخرى لها طبيعتها وقوانينها الخاصة فلا تقاس على دار الدنيا.

وإذا كان الاستشكال حاصلا من جهة الجمع بين حقيقة الموت المقتضية لمفارقة الروح للبدن، وبين القيام بهذه الصلوات، فإنه يزول عند معرفة طبيعة العلاقة بين الروح والجسد في عالم البرزخ، فليس مغادرة الروح للجسد يعني بالضرورة عدم تعلقها به على نحو ما، بدليل عودة روح النبي –صلى الله عليه وسلم- إليه كي يرد السلام كما صح بذلك الحديث، ولذلك فإن أرواح الأنبياء بعد مفارقة البدن هي في الرفيق الأعلى، وفي نفس الوقت: لها إشراف على البدن وتعلق به، كما قال ابن القيم: " من غلظت طباعه عن إدراك هذا ، فلينظر إلى الشمس في علو محلها ، وتعلقها وتأثيرها في الأرض، وحياة النبات والحيوان بها، وهذه النار تكون في محلها ، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها ، مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم ، فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف ".

ثم إن هذه الحياة المذكورة للأنبياء عليهم السلام ولغيرهم في البرزخ لا يراد بها الحياة الحقيقية الكاملة التي نعرفها، بل هي حياة خاصة غير خاضعة للمألوف، فلا يقاس عليها ما نعرفه في عالم الشهادة.

وأما استشكال انقطاع العمل بعد الموت، فصلاة الأنبياء عليهم السلام ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل هو من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به، كما قال الله عن أهل الجنة: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} (يونس: 10)، فالآية تشير إلى جملة من الأذكار الداخلة في جملة العبادات، إلا أنها ليست على وجه التكليف، بل هو من قرة العين والنعيم الخاص بأهل الجنة.

وقد عبر القرطبي عن هذه المعاني بقوله:" فإن قيل : كيف يصلون بعد الموت وليس تلك الحال حال تكليف ؟ فالجواب : أن ذلك ليس بحكم التكليف ، وإنما ذلك بحكم الإكرام لهم والتشريف ، وذلك أنهم كانوا في الدنيا حببت لهم عبادة الله تعالى والصلاة بحيث كانوا يلازمون ذلك ، ثم توفوا وهم على ذلك ، فشرفهم الله تعالى بعد موتهم بأن أبقى عليهم ما كانوا يحبون ، وما عرفوا به ، فتكون عبادتهم إلهامية كعبادة الملائكة".
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة