- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:تاريخ و حضارة
ليس من الحصافة أن نستنزف الوقت في تحصيل الحاصل ووصف مظاهر الانهيار الأممي التي لا تخفى على أحد من تراجع لمعدلات النمو الاقتصادي وتقهقر دخل الفرد وتقلص الصادرات واستنزاف الموارد واضطراب المنظومة الاجتماعية والأخلاقية .. مما يحدثنا عنه نخبة الاقتصاديين والاجتماعيين والمراقبين والاستراتيجيين، ممن تعج بهم الفضائيات صباح مساء.
فالواقع يشهد أن هذه الكبوات ما هي إلا دلائل ومظاهر تستهوي بادي الرأي بالمناقشة والتحليل، ولا تغوص في عمق المشكلة ومسبباتها، بل وإرهاصاتها التي تنبئ بالانهيار قبل اندلاعه، وبالكارثة قبل وقوعها.
فالأمم تنهار أساسا عندما تتخلخل هويتها بركائزها الثلاثة: "التاريخ والدين واللغة" .. يقول الأستاذ محمد زاهد جول في كتابه الماتع (التجربة النهضوية التركية): "لا شك أن للنهضة هويتها التي تنتمي بها إلى أمتها ودولتها، فإذا ما تعارضت هوية الأمة مع هوية نهضتها تعثرت في مسارها، وتأخرت في تحديد مصيرها المنشود، وربما انحرفت طريقها إلى أكثر من طريق جانبي، أو تعطلت بها السبل".
ركيزة التاريخ
إن الوعي التاريخي لأي أمه يمثل عقلها المستفاد، ولا تستطيع الانتقال إلى العقل الفعال إذا كان عقلها المستفاد فارغا، أو ضعيفا أو مهزوزا .. يقول د. أحمد داود أوغلو رئيس وزراء تركيا في كتابه (العمق الاستراتيجي): "إن أحد الأسباب الهامة لعدم الكفاءة في النظرية الإستراتيجية والذهنية الإستراتيجية هو وجود تناقضات في موضوعي الهوية والوعي التاريخي باعتبارهما عاملين أساسيين في ضعف الاستعداد النفسي".
ركيزة الدين
الدين يضبط إيقاع الحياة الإنسانية .. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه ولاسيما إذا كان طالبا ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه؛ فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور وذكر ماجريات النفس والهزل واللعب ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك، ولا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى. فإن الإنسان خلق محتاجا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ونفسه مريدة دائما ولا بد لها من مراد يكون غاية مطلوبها لتسكن إليه وتطمئن به، وليس ذلك إلا لله وحده؛ فلا تطمئن القلوب إلا به ولا تسكن النفوس إلا إليه {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء:22] فكل مألوه سواه يحصل به الفساد ولا يحصل صلاح القلوب إلا بعبادة الله وحده لا شريك له". [مجموع الفتاوى]
ركيزة اللغة
اللغة أعرق تجليات الهوية في تاريخ الإنسان، لأن اللسان الواحد هو الذي جعل من كل فئة من الناس "جماعة" واحدة، ذات هوية مستقلة، وشخصية خاصة، بل ودورا مميزا في بناء الأفراد والجماعات، وتشييد المعارف والحضارات .. فإذا كانت اللغة تحتوي طرائق التفكير والتاريخ والمشاعر، وإرادة الناس وطموحاتهم وشكل علاقاتهم، فالهوية أيضا هي هذه العناصر في كليتها وتركبها.
"إن اللغة الأم هي تلك التي ازدوجت بها شخصية الإنسان، فأصبحت توءمه، وبقية ما أجاده من لغات لا تعدو أن تكون محفوظات يعود إليها عند الحاجة، فإذا تكلمت بلغة أخرى تشعر بأن هناك تكلفا وسدودا مانعة، ولكن عندما تتكلم بلغتك يكون ذلك الكلام صادرا عن صميم ذاتك، وتحس بصفاء الذات؛ حيث الاستعمال العفوي الذي لا يحتاج إلى وسائط، ولا إلى جسور، فالكلام يجري جريا خفيفا دون تكلف، كما يحس الإنسان أن بينه وبين ابن لغته تكون أبواب النفس مشرعة بين الطرفين" [زيغرد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب]
واللغة تعبر عن الفكر، وبما أن الفكر في تغير مستمر نتيجة العوامل والتغيرات الخارجية والتطورات العلمية، فلا بد للغة أن تساير هذا الفكر بكل تغيراته وتطوراته؛ لهذا فعلاقة اللغة بالفكر هي علاقة وطيدة .. يقول العالم (دولا كروا): "إن الفكر يصنع اللغة في نفس الوقت الذي يصنع فيه من طرف اللغة".
واللغة العربية في ماضيها المجيد وتراثها التليد تأتي في مقدمة اللغات التي نجحت في القيام بدورها الحضاري الرفيع، وارتقت بأمة من مجتمع الصحراء المتواري لتكون هي ولغتها قائدة الحضارة والمعرفة على مستوى العالم قرونا عديدة متوالية.
كما أن التحول العربي بعد الإسلام من حدود القبلية والبداوة إلى سعة الحضارة والمدنية كان أحد تجلياته الواضحة الاتجاه الكبير نحو التدوين اللغوي، ونشاط الدراسات اللغوية والنحوية، في إشارة واضحة وعميقة إلى التحول في حياة أولئك العرب، وشعورهم بأنهم أصحاب هوية.
إن "اللغة العربية" تحديدا، وإن كانت هوية لأصحابها (العرب)، ولغيرهم (من يتعبدون بها من المسلمين) إلا أنها ذات خصوصية، فهي أعلى مستوى من مجرد لغة، وأكثر عمقا وأشد التصاقا بناطقيها وتمييزا لهم .. إنها هوية من طراز خاص، تمتلك الكثير من عناصر القوة التي تعطيها سمات مميزة وفريدة عن باقي اللغات الأخرى.
فمن أبرز عناصر القوة في اللغة العربية الإجلال والقداسة المنبثقة من نزول القرآن الكريم بها خاصة دون غيرها من اللغات، قال تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف:2] {قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} [الزمر:28] {بلسان عربي مبين} [الشعراء:195] كما أن الصلاة التي هي عمود الإسلام لا تؤدى إلا باللغة العربية.
ولذلك فالمستشرق (لويس ماسينيون) كان يرى أن العربية – ربما في سمة تنفرد بها أو تكاد – ليست لغة تواصلية فحسب؛ لكن لها وظيفة دينية، وأن هذه القداسة للغة العربية تجعل منها جزءا من الدين، والدين هو أهم عوامل الهوية، وأقواها حضورا عند الإنسان، أيا كان.
بل إنه مع ضمان حفظ القرآن لا يخشى على العربية من الاندثار، ولا تعصف بها رياح الزمن والبلى، وهذا ما يفسر لنا بقاءها واستمرارها حتى اليوم، دون أن تتحول إلى لغات كما حدث مع اللاتينية مثلا، فلا يزال العرب اليوم يقرؤون القرآن، بتلك اللغة التي دونت بها الكتب قبل خمسة عشر قرنا، ويفهمون ما يقرؤون.
ومن عناصر قوة العربية أيضا امتلاكها مقومات الصحة والحياة والجمال والقابلية لاستيعاب مختلف المعارف والعلوم والتعبير عنها.
وعن علاقة اللغة بالتاريخ يقول د. فيصل الخفيان: "اللغة وعاء التاريخ، وكلما كان هذا الأخير ممتدا وخصبا انعكس على اللغة قوة وثراء، فالوعاء لا بد أن يثري بما فيه، والتاريخ بمادته ومواقفه وحراك أصحابه ومشاعرهم، وذكرياتهم وانتصاراتهم، وإخفاقاتهم ودروسهم وعبرهم - لا بد أن يغني هذه اللغة التي كانت ترجمانه المعبر، ولسانه الناطق.
وتاريخ العربية يمتد قرونا طويلة، كانت هي خلاله لسانا واحدا ولا تزال، خلافا لتواريخ كثيرة، وألسنة عديدة، انقطعت أو بترت، فما عاد لها صلة بمراحل تاريخية سابقة، ولا لغات أمهات ولدت من رحمها".
إن نهضة الأمم عملية ممازجة وموائمة بين الذات والواقع، وكما يقول المخضرمون: "اكتشاف الذات بقناعتها الدينية والفكرية معا دون تعارض، واكتشاف الذات بماضيها التاريخي والمعاصر ودون تناقض، واكتشاف الذات بمقدرتها الاقتصادية والسياسية بترابط ودون تباغض، واكتشاف الذات بمميزاتها الحضارية الحوارية دون تصادم".