إنْ شِئْتَ زوجتُك حَفْصة

0 1599

لما أذن الله عز وجل للمؤمنين بالهجرة، لحقت حفصة بنت عمر بن الخطاب وزوجها خنيس بن حذافة السهمي رضي الله عنهما بالمهاجرين إلى المدينة المنورة، وما هو إلا قليل حتى بدأت مرحلة المواجهة والقتال بين المسلمين والمشركين في بدر، وقد أبلى خنيس رضي الله عنه فيها بلاء حسنا، لكنه خرج منها مثخنا بجراحات كثيرة، ولم يلبث بعدها إلا قليلا حتى توفي رضي الله عنه، تاركا وراءه حفصة رضي الله عنها، وقد شق ذلك على أبيها عمر رضي الله عنه، فأراد أن يواسيها في مصابها، فقام يبحث لها عن زوج صالح.. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن عمر بن الخطاب حين تأيمت (مات زوجها) حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة (ليتزوجها)، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، وكنت أوجد (أغضب) عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت (غضبت) علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا، قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك (أجيبك) فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها) رواه البخاري.

عرض الإنسان ابنته على أهل الصلاح والدين للزواج:

ذكر البخاري في صحيحه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعرضه لابنته حفصة رضي الله عنها على عثمان وأبي بكر رضي الله عنهما في: "كتاب النكاح، باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير".
قال ابن بطال: "وفى حديث عمر من الفقه الرخصة فى أن يعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح رغبة فيه، ولا نقيصة عليه فى ذلك"، وقال ابن حجر في فوائد هذا الحديث: "وفيه: فضل كتمان السر، فإذا أظهره صاحبه ارتفع الحرج عمن سمعه. وفيه: عتاب الرجل لأخيه وعتبه عليه واعتذاره إليه. وفيه: عرض الإنسان ابنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه، وأنه لا استحياء في ذلك، وفيه: أنه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوجا، لأن أبا بكر كان حينئذ متزوجا، وفيه: أن من حلف لا يفشي سر فلان فأفشى فلان سر نفسه ثم تحدث به الحالف لا يحنث، لأن صاحب السر هو الذي أفشاه فلم يكن الإفشاء من قبل الحالف".
وقال القرطبي في تفسيره لقول الله تعالى: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين}(القصص:27): "فيه عرض الولي ابنته على الرجل، وهذه سنة قائمة، عرض صالح مدين (شعيب عليه السلام) ابنته على صالح بني إسرائيل (موسى عليه السلام)، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان".

كتمان السر:

من حسن الخلق والمودة والعشرة حفظ الأسرار وعدم إفشائها، قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: (فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال ابن حجر: "وفيه فضل كتمان السر فإذا أظهره صاحبه ارتفع الحرج عمن سمعه"، فعلى من أودع سرا أن يحافظ عليه ولا يفشيه أبدا، وإلا أصبح خائنا، وهي صفة مشابهة للمنافق الذي إذا ائتمن على شيء خانه، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها(يتركها)، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) رواه البخاري. قال الماوردي: "إن من الأسرار ما لا يستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم، واستشارة ناصح مسالم، فليختر لسره أمينا، إن لم يجد إلى كتمه سبيلا، وليتحر المرء في اختيار من يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فليس كل من كان أمينا على الأموال، كان على الأسرار مؤتمنا".

فرح عمر رضي الله عنه بمصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأصبحت حفصة رضي الله عنها أما من أمهات المؤمنين للمؤمنين، قال الله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}(الأحزاب:6)، وقبل عمر اعتذار أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم..
ولو تأملنا زيجات النبي صلى الله عليه وسلم لوجدناها تنطوي على حكم بالغة ومقاصد عظيمة، فلم يكن الأمر منحصرا في مسألة قضاء الوطر وإن كان ذلك أمرا فطريا سائغا لا يعاب الإنسان به، وقد كان سائدا بين العرب آنذاك، وقد عدد الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإن هدفه صلوات الله وسلامه عليه من كثرة زواجه كان أسمى من ذلك وأعلى، فقد حرص في بعضها على توثيق الرابطة بين الإسلام وبعض القبائل، كما حدث عندما تزوج بجويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق، الذي كان من آثاره إسلام جميع قبيلتها، وكزواجه منأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وصفية بنت حيي بن أخطب.. وهدف في بعضها الآخر تكريم ورعاية أرامل الشهداء الذين ماتوا في الحبشة، أو استشهدوا في المعارك والغزوات، مثل أم سلمة وزينب بنت خزيمة، وسودة بنت زمعة.. وكان في بعضها الآخر زواجا تشريعيا كزواجه من زينب بنت جحش وذلك لهدم نظام التبني الذي كان موجودا عند العرب.. ومنها توثيق أواصر الترابط بينه وبين صاحبيه الجليلين أبى بكر وعمر رضي الله عنهما، وتكريمهما بشرف المصاهرة به، وذلك ظاهر في زواجه صلى الله عليه وسلم بعائشة وحفصة رضي الله عنهما.. إلى غير ذلك من الأهداف والغايات السامية في زواجه صلى الله عليه وسلم ..
وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري حكما كثيرة للعلماء من استكثاره صلى الله عليه وسلم من الزوجات، أحدها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك.. ثانيها: لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم. ثالثها: الزيادة في تألفهم لذلك. رابعها: لتكثر عشيرته من جهة نسائه فتزداد أعوانه على من يحاربه. خامسها: نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله. سادسها: الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة، فقد تزوج أم حبيبة وأبوها يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن. سابعها: تحصينهن والقيام بحقوقهن..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة