"سلوك الجادة" وأثره في التصحيح والتضعيف

0 1774

جادة الطريق كما جاء في لسان العرب وغيره: مسلكه أو ما وضح منه، و"سلك الجادة" تعبير استعمله علماء الحديث كالحافظ ابن حجر وغيره، واستعمله بعضهم بلفظ: "لزم الجادة" أو "لزم الطريق" أو "أخذ طريق المجرة فيه" لأنه كان أسهل عليه، قال ابن رجب الحنبلي: "قول أبي حاتم: مبارك لزم الطريق، يعني به أن رواية ثابت عن أنس سلسلة معروفة مشهورة، تسبق إليها الألسنة والأوهام، فيسلكها من قل حفظه، بخلاف ما قاله حماد بن سلمة، فإن في إسناده ما يستغرب، فلا يحفظه إلا حافظ، وأبو حاتم كثيرا ما يعلل الأحاديث بمثل هذا، وكذلك غيره من الأئمة".

معنى سلك طريق الجادة

أي سلك الطريق المعروفة أو المشهورة في الإسناد، أي مشى في روايته أو في نقده على الطريقة الغالبة المشهورة أو المعروفة؛ ومثاله سلسلة الإسناد المعروفة: (مالك عن نافع عن ابن عمر)، فهذه الطريق مشهورة، وقد سماها البعض سلسلة الذهب، وهناك العديد من الأحاديث تروى بالطرق المشهورة، كهذه الطريق: (مالك عن نافع عن ابن عمر)، ومما هو معلوم أن مالك قد يروي أحاديث لابن عمر رضي الله عنهما من غير نافع، فقد يروي أحد الرواة حديثا عن ابن عمر من طريق مالك فيكون الطريق عن نافع أسرع إلى ذهن الراوي، وأسبق على لسانه لكثرة الأحاديث الواردة عن مالك بتلك الطريق.

وقد يتفق بعض الرواة على رواية حديث إسنادا ومتنا، ويخالفهم من هم أولى بالحفظ منهم، فيرجح الأئمة رواية الحفاظ، وإن كان الأولون جماعة يبعد على مثلهم الخطأ عادة، إلا أن الأئمة يرون أن هؤلاء الجماعة وإن اتفقوا، إلا أن ما اتفقوا عليه مما يسهل أن تتوارد عليه الأذهان، وأن يتفق على الخطأ فيه الجماعة، كأن تكون روايتهم جارية على الجادة المعهودة، ورواية الحفاظ على خلاف الجادة، فـحماد بن سلمة إذا روى عن ثابت البناني، غالبا ما يكون الحديث: "عن ثابت عن أنس"، فإذا روى حافظ أو أكثر عن حماد بن سلمة حديثا عن ثابت مرسلا، ووجدنا عددا من الضعفاء، أو ممن ليسوا مبرزين في الحفظ؛ رووا الحديث، فقالوا: "عن حماد، عن ثابت، عن أنس"، عرفنا أن من وصل الحديث بذكر أنس إنما سلك الجادة، فأخطأ، وأن من لم يسلكها إنما حفظ الحديث على وجهه، ويقع مثل ذلك أيضا بكثرة في: "محمد بن المنكدر عن جابر".

قال الإمام أحمد: "أهل المدينة إذا كان الحديث غلطا يقولون: ابن المنكدر عن جابر، وأهل البصرة يقولون: ثابت عن أنس، يحيلون عليهما؛ كان ابن المنكدر رجلا صالحا، وكان يعرف بجابر، مثل ثابت عن أنس، وكان يحدث عن يزيد الرقاشي، فربما حدث بالشيء مرسلا فجعلوه عن جابر"، وقال أيضا: "فإذا توارد عدد من الرواة، لاسيما إذا كانوا ضعفاء، أو ليسوا من المبرزين في الحفظ، وكان ما تواردوا عليه مما يجري على الجادة الغالبة، وخالفهم حافظ أو أكثر، كان الغالب أن الصواب مع من عرف بالحفظ والإتقان، وأن ما تتابع عليه هؤلاء خطأ"، وقال السخاوي وغيره: "فسلوك غير الجادة دال على مزيد التحفظ، كما أشار إليه النسائي".

قال الإمام ابن رجب: "إن كان المنفرد عن الحفاظ مع سوء حفظه قد سلك الطريق المشهور، والحفاظ يخالفونه؛ فإنه لا يكاد يرتاب في وهمه وخطئه؛ لأن الطريق المشهور تسبق إليه الألسنة والأوهام كثيرا، فيسلكه من لا يحفظ"، وهذا هو شأن الضعفاء أن يسلكوا الجادة عند اختلاف الروايات، وذلك لقلة معرفتهم بالأسانيد والروايات، وقلة اهتامهم بالحديث، فيأتوا بأشهر الطرق، فإن كانت من طريق مالك عن نافع، قالوا: عن ابن عمر، بينما هي قد تكون عن غير ابن عمر وهكذا..

صور سلوك الجادة

كثرة ما يروى بإسناد: (رواية الآباء عن الأبناء) أو (الصحابة عن التابعين) أو (الشيخ عن تلميذه) أو (الأكابر عن الأصاغر) كرواية صالح بن كيسان عن الزهري، وهو أكبر منه سنا، لكنه تأخر في الطلب وحفظ الحديث فاحتاج إلى أن يروي بكثرة عن صالح بن كيسان، فهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر، أما رواية الأصاغر عن الأكابر هذه هي الجادة، ونحو ذلك كثير، فأمثال هذه الصور تحتاج إلى أن ينص عليه ويبين ويميز عن غيره، لأن في عكسها كثرة؛ وهو الجادة المسلوكة الغالبة، أو عكس (عن أبيه عن جده) ومن صوره كذلك: أن يجعل الحديث من مسند الصحابي "أبي هريرة"، وليس من مسند "عمر"، سالكا فيه الجادة؛ كأن يكون في الإسناد الراوي أبو زرعة، فإن أبا زرعة أكثر ما يروي عن أبي هريرة، أو دخول حديث في حديث، كما قاله البرقاني، حيث أن المخطئ فيه أبدل إسناد حديث مرسل، بإسناد آخر متصل، سالكا فيه الجادة، أو أن ينتهي الحديث إلى صحابي، ثم يروى عن صحابي آخر، لأن الغالب أن الإسناد إذا انتهى إلى الصحابي، قيل بعده: عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء هنا بعد الصحابي ذكر صحابي آخر والحديث من قوله، كان الظن غالبا على أن من ضبطه هكذا أتقن ضبطا. وهو باب واسع، يصعب حصره أو الوقوف عليه في هذا المقال.

وغالب ما يقع سلوك الجادة في الإسناد، وهو الأشهر، وقد يحصل في المتن، وهو قليل جدا، ذكر بعض أمثلته الدارقطني في علله، وتكمن صورته في الاختلاف في رفع كامل الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو جزء منه، وعلق عليه بقوله: ورواه شعبة وإسرائيل وشريك من كلام عبد الله إلا قوله: (كذا) فإنهم رفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقول شعبة ومن تابعه أولى بالصواب. ذلك أن القرينة في مثل هذه الروايات تتمثل في سلوك الجادة، فإن الجادة هي أن يسوق الحديث في مساق واحد، وهو عادة رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا وجدنا الراوي يقوم بالفصل بين القدر المرفوع والقدر الموقوف، فذلك دليل على يقظة ذلك الراوي، بخلاف من خلط بينهما، ولا ينقدح ذلك إلا في ذهن من مارس هذا الفن حق الممارسة.

وقد كان مثل هذا يحصل كثيرا عند الرواة، وهو سبب من أسباب الخطأ في الرواية، قال المعلمي اليماني: "الخطأ في الأسانيد أغلب ما يقع بسلوك الجادة، فـ(هشام بن عروة) غالب روايته عن أبيه، عن عائشة، وقد يروي عن وهب بن كيسان، عن عبيد بن عمير، فقد يسمع رجل من هشام خبرا بالسند الثاني، ثم يمضي على السامع زمان فيشتبه عليه، فيتوهم أنه سمع ذاك الخبر من هشام بالسند الأول، على ما هو الغالب المألوف، ولذلك تجد أئمة الحديث إذا وجدوا راويين اختلفا بأن رويا عن هشام خبرا واحدا جعله أحدهما عن هشام عن وهب عن عبيد، وجعله الآخر عن هشام عن أبيه عن عائشة، فالغالب أن يقدموا الأول ويخطئوا الثاني، هذا مثال, ومن راجع كتب علل الحديث وجد من هذا ما لا يحصى"، وقال الإمام ابن رجب في (فتح الباري): "فإن عروة عن عائشة سلسلة معروفة يسبق إليها لسان من لا يضبط ووهمه، بخلاف عروة عن ابن عمر فإنه غريب لا يقوله إلا حافظ متقن".

وقال المعلمي اليماني: "والمعروف عند المحدثين أنه إذا وقع الاختلاف على وجهين فأقربهما ان يكون خطأ هو الجاري على الجادة، أي الجاري على الغالب، وعامة رواية أبي صالح عن أبي هريرة، فمن أخطأ عليه أو كذب فإنه يسلك هذه الجادة فيقول: (أبو صالح عن أبي هريرة)، فمن هنا رجح البخاري الوجه الآخر لا تخطئة للأعمش، بل لشيخه الذي لا يدرى من هو، والأعمش معروف بأنه يسمع ويروي عن كل أحد.

ومن المعلوم أن الوقوف على حقيقة علة الحديث، عمل شاق صعب لا يجيده إلا الجهابذة من العلماء، وذلك يتوقف على جمع الروايات واستيعابها، لا سيما إذا كانت مشهورة برواية الأئمة الثقات. قال ابن معين: "لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه"، وقال الإمام أحمد: "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا"، وقال ابن المديني: "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه"، والأمثلة على دقائق هذا الفن أكثر من أن تحصى في كتب الصحاح والسنن، ومن أراد تتبعها فعليه بعلل الدارقطني أو علل ابن المديني أو غيرهما من كتب العلل.

أمثلة على سلوك الجادة

نكتفي بمثالين على مثل هذه الروايات التي كشفها العلماء، الأول هو حديث في صحيح البخاري: قال فيه: حدثنا عاصم بن علي، حدثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد، عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن) قيل: من يا رسول الله؟! قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه)، تابعه شبابة وأسد بن موسى وقال حميد بن الأسود وعثمان بن عمر وأبو بكر بن عياش وشعيب بن إسحاق عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة. علق الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله: وإذا تقرر ذلك فالأكثر قالوا فيه: "عن أبي هريرة" فكان ينبغي ترجيحهم، ويؤيده أن الراوي إذا حدث في بلده كان أتقن لما يحدثه به في حال سفره، ولكن عارض ذلك أن سعيدا المقبري مشهور بالرواية عن أبي هريرة، فمن قال عنه: "عن أبي هريرة" سلك الجادة، فكانت مع من قال عنه: "عن أبي شريح" زيادة علم ليست عند الآخرين، وأيضا فقد وجد معنى الحديث من رواية الليث عن سعيد المقبري عن أبي شريح كما سيأتي بعد باب، فكانت فيه تقوية لمن رآه عن ابن أبي ذئب فقال فيه: "عن أبي شريح" ومع ذلك فصنيع البخاري يقتضي تصحيح الوجهين، وإن كانت الرواية عن أبي شريح أصح.

وقد يرجح الحفاظ في بعض الحالات رواية من سلك الجادة على رواية من أتى بإسناد غريب، أو تقل الرواية به، كما في الرواية السابقة عند البخاري، وذلك يعرف بتتبع قرائن الترجيح، كما هو معلوم عند أهل الحديث، فإن كثرة الرواة الثقات تعد قرينة لتقوية الحديث.

المثال الثاني: ذكره ابن أبي حاتم حين سئل عن حديث رواه نوح بن حبيب عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، قال أبي: هذا حديث باطل لا أصل له، إنما هو: مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر، ومعنى ذلك أن ابن أبي رواد كان عليه أن يروي حديث: (إنما الأعمال..) عن مالك عن يحيى بن سعيد على النحو الذي يرويه الثقات، غير أنه لم يدقق ما سمعه من مالك، حتى تداخلت عليه أحاديثه، فرواه عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد خطأ ووهما، ولما وهم ابن أبي رواد في هذا الحديث سهل على لسانه لانتقال من إسناد إلى إسناد أكثر تداولا، وشهرة؛ إذ كان مالك يروي كثيرا عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد غير حديث. وهذا ما يقال عنه في لغة النقاد: سلوك الجادة. وابن أبي رواد هو عبد المجيد بن أبي رواد متكلم فيه. فلم يضعف أبو حاتم هذا الحديث لكون ابن أبي رواد ضعيفا أو متكلما فيه وإنما لمخالفته الواقع المعروف عن مالك في هذا الحديث.

صور أخرى

وقد يكون سلوك الجادة سبب في الاختلاف بين الوقف والرفع، أو كمن يزيد الوصل في الإسناد المرسل يجريه على الجادة غفلة، ومثاله: ما ذكره الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح، حيث قال: "فيترجح الوقف بتجويز أن يكون الرافع تبع العادة وسلك الجادة. ومثال ذلك ما رواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالحزورة: (والله إني لأعلم أنك خير أرض الله) الحديث. حيث رواه الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء رضي الله تعالى عنه، وهو المحفوظ، والحديث حديثه، وهو مشهور به. وقد سمعه الزهري أيضا من محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدي رضي الله عنه، وسلك محمد بن عمرو الجادة، فقال: عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، واعلم أن هذا كله إذا كان للمتن سند واحد. أما إذا كان له سندان، فلا يجري فيه هذا الخلاف."

أهمية معرفة هذه المسألة

وتكمن أهمية الوقوف على مسألة سلوك الجادة في حالات التفرد، ذلك أن التفرد يقبل من الثقة، ويرد من الضعيف، وقد تطرأ عليه حالات مختلفة، ومتفاوتة في تأثير الحكم عليه كما ينطق بها موقف النقاد تجاهه، على ضوء عمل أئمة الحديث، فإن مقاييس القبول والرد في مجال التفرد تتبع القرائن الدالة على ذلك، ولهذا وضع أئمة الحديث قيدا مهما في تعريف الصحيح، وهو: الخلو من الشذوذ والعله، وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي: وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد، وإن لم يرو الثقات خلافه: "إنه لا يتابع عليه"، ويجعلون ذلك علة فيه اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضا ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه.

ولا شك أن سلوك الجادة موضوع شائك له علاقة وارتباط بموضوع زيادة الثقة من حيث قبولها، وردها عند نقاد الحديث، وسلوك الجادة هو أحد القرائن الدالة على وهم الراوي، وهذا متوقف على قرائن الترجيح، وهي كثيرة ومتنوعة، منها كون الراوي أحفظ الناس، ومنها كثرة عدد الرواة، ومنها سلوك الجادة، ومنها رواية الحديث بالمعنى، ومنها اعتماد الراوي على حفظه، ومنها تداخل الأحاديث، وغير ذلك، بل لكل حديث قرينة خاصة، فلا تكون الأحفظية سببا يعتمد دائما للترجيح، وكذا كثرة العدد، وكذا بقية القرائن، وبذلك يصبح الترجيح من أصعب المسائل التي لا يمكن القيام بها إلا لمن لديه ما يسمى فقه القرائن، ولذا قال الحاكم: "الحجة عندنا الفهم والمعرفة والحفظ لا غير".

ومن هنا فإن تلخيص صورة سلوك الجادة أن يروي الحديث ثقتان، فيجريه أحدهما على المعتاد في أسانيد شيخه، والآخر على غير المعتاد منها، فمن خرج به عن المعتاد، فذلك قرينة على إتقانه للرواية، إذ مثل ذلك يحتاج حفظه إلى مزيد احتياط، ولا يتفطن إليه متيقظ، بخلاف ما جاء على الجادة. أي سار على ما هو أغلب وأشهر، وهي تقال لمن ذهب في روايته أو حكمه إلى ما غلب في ذلك الباب من الروايات أو الأحكام، وسلوك الجادة يكون في أحيان كثيرة نوعا من أنواع وقوع الرواة أو النقاد في الوهم، ويقال عندئذ: بأن الراوي "وهم وسلك الجادة" وهو أحد علامات الغلط، ولذلك كان معروفا عند المحققين من العلماء أنه: إذا وقع الاختلاف على وجهين فأقربهما أن يكون خطأ هو الجاري على الجادة، أي الجاري على الغالب، وقد نبه العلماء على هذه المسألة، وعملوا بمقتضاها. هذا والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة