وأَنْذِرْ عَشِيرَتك الْأَقْربين

0 1489

بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الإسلام سرا لظروف استدعت تلك الحال، وذلك حفاظا منه على الدعوة الجديدة، وحتى لا يعلم المشركون بها فيقضون عليها في مهدها، وكان يدعو في هذه الفترة من يغلب على ظنه أنه سيدخل في الإسلام، وهذا من فقه وحكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع علماء السيرة النبوية على أن هذه الفترة ـ السرية ـ كانت ثلاث سنوات، وقد ظل على ذلك حتى جاءت لحظة الانتقال إلى مرحلة الجهر بالدعوة، بما قد تحمله من مواجهة وبلاء، وأذى وتضحيات، قال ابن هشام: "ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من النساء والرجال، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به، فأمر الله رسوله أن يصدع بما جاءه من الحق، وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه، ثم قال الله له: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين}(الحجر:94)، وقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين}(الشعراء:214)". 

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: لما نزل قول الله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}(الشعراء:214)، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا (جبل الصفا) فجعل ينادي: يابني فهر، يابني عدي ـ لبطون قريش ـ حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما الأمر؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال صلى الله عليه وسلم:أرأيتكم (أخبروني)لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا!! (وفي رواية قالوا: ما جربنا عليك كذبا)، قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا (هلاكا) لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا، فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب}(المسد2:1)) رواه البخاري.
قال المناوي: "{وأنذر عشيرتك الأقربين}(الشعراء:214) أي: أنذرهم وإن لم يسمعوا قولك أو لم يقبلوا نصحك لكونهم أزهد الناس، فإن ذلك ليس عذرا مسقطا للتبليغ عنك"، وقال الخطابي: "أسلوب الحديث يسمى في علم البديع بالمذهب الكلامي، لأنه صلى الله عليه وسلم استنطقهم أولا بما أقروا به أنه صادق، فلما اعترفوا ألزمهم بقوله: (إني نذير لكم) إلخ، أي إذا اعترفتم بصدقي فاتبعوا لما أقول لكم". وقال ابن حجر: "والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولا أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع، وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة فيحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نص له على إنذارهم".

وفي هذا الموقف النبوي الفاصل بين مرحلتي الدعوة السرية والجهرية فوائد كثيرة ينبغي الوقوف معها للاستفادة منها، ومن ذلك:

ما جربنا عليك كذبا:

لما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة سأل المشركين قائلا: (أرأيتكم (أخبروني) لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا!! (وفي رواية قالوا: ما جربنا عليك كذبا)، فعلى كثرة ما افترى المشركون به على النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم: ساحر، شاعر، مجنون، إلا أنهم لم يتهموه بالكذب، ويؤكد النضر بن الحارث - أشد قريش عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم - على صدقه صلوات الله وسلامه عليه حين قام خطيبا في قريش قائلا لهم: "يا معشر قريش! إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة". وكان الحارث بن عامر يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته قال: "ما محمد من أهل الكذب". ولذلك قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين، فعرفوا أنه لا يكذب في شيء، ولكنهم كانوا يجحدون".
وقال ابن القيم: "أن المسور بن مخرمة سأل أبا جهل عن حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: يا خالي! هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: يا ابن أختي! والله لقد كان محمد فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذبا قط، قال: يا خال! فما لكم لا تتبعونه؟ قال: يا ابن أختي! تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا (جلسنا للخصومة) على الركب كنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي فمتى ندرك مثل هذه؟". وعن علي رضي الله عنه: "أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}(الأنعام :33)) رواه الترمذي وصححه الشيخ أحمد شاكر.

عالمية الإسلام، والبداية من مكة:

من الطبيعي أن يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، ومكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبداية الدعوة بالعشيرة في مكة قد يعين على نصرة دعوته وتأييده وحمايته، على أن هذا لا يعني أن رسالة الإسلام كانت محدودة وخاصة بقريش أو بالعرب فقط، بل كانت رسالة عامة للناس جميعا، أبيضهم وأسودهم، عربا كانوا أو عجما، وقد صرح القرآن الكريم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس جميعا، قال الله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا}(الأعراف: 158)، وقال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا}(الفرقان:1)، وقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء: 107).
وقال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه}(آل عمران:81): " قال علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه". فهذه بعض النصوص الواضحة والمؤكدة على عمومية وعالمية رسالته صلى الله عليه وسلم، وأنه أرسل إلى الناس كافة، وهذه خصوصية له صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) رواه مسلم.

معجزة نبوية:

امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه عز وجل بدعوة عشيرته الأقربين إلى الإسلام، وما أن انتهى من إبلاغهم ذلك إلا ورد عليه أبو لهب قائلا: تبا (هلاكا) لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا، فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب}(المسد2:1) رواه البخاري، قال ابن كثير: " قال العلماء: وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة، فإنه منذ نزل قوله تعالى: {سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد}( المسد 3 : 5)، فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، لم يقيض لهما أن يؤمنا، ولا واحد منهما، لا باطنا ولا ظاهرا، لا سرا ولا علنا، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة، على النبوة الظاهرة". وقال السعدي: "السورة (المسد)، آية باهرة من آيات الله، فإن الله أنزل هذه السورة، وأبو لهب وامرأته لم يهلكا، وأخبر أنهما سيعذبان في النار ولا بد، ومن لازم ذلك أنهما لا يسلمان، فوقع كما أخبر عالم الغيب والشهادة ".

لقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة، فدعا إلى الله سرا، واستمر على ذلك ثلاث سنين من بداية بعثته، فلما نزل عليه قول الله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}(الشعراء:214)، {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين}(الحجر:94) أعلن وجهر بالدعوة، وكان ذلك بداية للدعوة الجهرية.. ومن خلال السيرة النبوية نرى كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع هاتين المرحلتين ـ السرية والجهرية ـ في الدعوة إلى الله، حيث انتهج الأسلوب المناسب لكلا منهما، والذي تميز في مجمله بالحكمة والرفق، والصبر والثبات، وعلى هذا يجب أن تكون الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان على حسب المنهج والأسلوب النبوي، قال الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}(النحل:125)، وقال: {واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون}(النحل:127).
قال ابن القيم في زاد المعاد: "ولما أنزل عليه: {فاصدع بما تؤمر}(الحجر: 94) صدع (جهر) بأمر الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، فدعا إلى الله الكبير والصغير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والجن والإنس. ولما صدع بأمر الله، وصرح لقومه بالدعوة، وبادأهم بسب آلهتهم، وعيب دينهم، اشتد أذاهم له ولمن استجاب له من أصحابه، ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه كما قال تعالى: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك}(فصلت: 43)، وقال: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن}(الأنعام: 112).. فعزى سبحانه نبيه بذلك، وأن له أسوة بمن تقدمه من المرسلين، وعزى أتباعه بقوله: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} (البقرة: 214)".
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة