- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:من الحديبية إلى تبوك
في السادس من شهر شوال للسنة الثامنة من الهجرة النبوية، وبعد فتح مكة بأيام غادر النبي صلى الله عليه وسلم مكة في اثني عشر ألفا من المسلمين، وذلك لملاقاة هوازن وثقيف الذين ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوجه إليهم لقتالهم، فعزموا على أن يبدؤوه بالقتال، وأمروا عليهم مالك بن عوف، فأمرهم أن يسوقوا معهم إلى المعركة أموالهم ونساءهم وأبناءهم ليكون ذلك أدعى إلى ثباتهم في القتال، وقد بلغ عدد المقاتلين منهم ما بين عشرين ألفا إلى ثلاثين، وقد قال بعض المسلمين قبل بداية المعركة والقتال: "لن نغلب اليوم من قلة"، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أثر ذلك حجب النصر عن المسلمين في بداية المعركة، والتي انتهت بنصر كبير للمسلمين في ما عرف في السيرة النبوية بغزوة حنين التي قال الله عز جل عنها: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين}(التوبة 25: 26).
وفي طريق سير النبي صلى الله عليه وسلم ـ وقبل بداية القتال ـ كان له موقف مع أنس بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه الذي تطوع لحراسة الجيش المسلم تلك الليلة، وكان في هذا الموقف الفائدة والعبرة.
عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه: (أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فأطنبوا السير (بالغوا في السير) حتى كانت عشية، فحضرت الصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فارس، فقال: يا رسول الله، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة آبائهم (جميعا) بظعنهم (بنسائهم) ونعمهم وشائهم (إبلهم وغنمهم) اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله، ثم قال: من يحرسنا الليلة؟ قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله, قال: فاركب، فركب فرسا له، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة (احذر أن تسهو فيفاجئنا العدو من الجهة التي تراقبها)، فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين، ثم قال: هل أحسستم فارسكم؟ قالوا: يا رسول الله ما أحسسناه، فثوب (أقيم) بالصلاة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب (يميل بطرف عينه إلى جهة الطريق في الجبل)، حتى إذا قضى صلاته وسلم قال: أبشروا فقد جاءكم فارسكم، فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نزلت الليلة؟ قال: لا، إلا مصليا أو قاضي حاجة (من بول أو غائط)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أوجبت، فلا عليك أن لا تعمل بعدها) رواه أبو داود وصححه الألباني.
بشارة نبوية:
بشر النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه بثواب وأجر عظيم فقال له: (قد أوجبت، فلا عليك أن لا تعمل بعدها) أي: فلا بأس عليك أن لا تعمل بعد هذه الليلة من الفضائل والنوافل، لأنه قد حصل لك فضيلة كافية بتلك الحسنة، وأما الواجبات فلا تسقط عن أحد ما دام حيا، وفي "عون المعبود شرح سنن أبي داود": "أي لا ضرر ولا جناح عليك في ترك العمل بعد هذه الحراسة لأنها تكفيك لدخول الجنة"، وهذا كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل بدر: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) رواه البخاري، وقال الطيبي: "أي: لا بأس عليك بأن لا تعمل بعد هذه الليلة من الميراث والخيرات، فإن عملك الليلة كافية لك عند الله مثوبة وفضيلة، وأراد النوافل والتبرعات من الأعمال لا الفرائض، فإن ذلك لا يسقط".. ولكن أنس بن أبي مرثد الغنوي والصحابة رضوان الله عليهم لم يتكلوا على مثل هذه البشارات لكمال معرفتهم بدينهم وعظيم خشيتهم من ربهم، ولكنهم قابلوها بالشكر والمواظبة على الأعمال الصالحة، ومواصلة الجهاد في سبيل الله حتى آخر لحظة من حياتهم، وصدق فيهم قول الله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}(الأحزاب:23).
كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ـ قبل المعركة ـ بالنصر والغنائم الهائلة، رغم كثرة أعدائهم عددا وعدة، وذلك حينما أخبروه أن هوازن اجتمعوا جميعا بنسائهم ونعمهم وشائهم إلى حنين، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال مبشرا أصحابه: (تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله)، وقد تحقق ما بشرهم به، وهذا من دلائل نبوته صلوات الله وسلامه عليه.
فائدة: الالتفات في الصلاة:
قال النووي في المجموع: "أجمع العلماء على استحباب الخشوع والخضوع في الصلاة، وغض البصر عما يلهي، وكراهة الالتفات في الصلاة، وتقريب النظر وقصره على ما بين يديه"، ولا خلاف بين الفقهاء في كراهة الالتفات في الصلاة، لحديث عائشة رضي الله عنه قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم) رواه البخاري، ولكن الكراهة مقيدة بعدم الحاجة أو العذر، أما إن كانت هناك حاجة: كخوف على نفس أو ولد أو مال لم يكره، للحديث والموقف الذي معنا في غزوة حنين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ثوب بالصلاة فجعل يصلي وهو يلتفت إلى الشعب (يميل بطرف عينه إلى جهة الطريق في الجبل)، فكان هذا الالتفات منه صلى الله عليه وسلم حرصا وخوفا على جنده وأصحابه. وقال ابن القيم: " كان يفعل في الصلاة شيئا أحيانا لعارض لم يكن من فعله الراتب، ومن هذا لما بعث صلى الله عليه وسلم فارسا طليعة (في حنين)، ثم قام إلى الصلاة، وجعل يلتفت في الصلاة إلى الشعب الذي يجيء منه الطليعة، ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الالتفات في الصلاة".
وفي هذا الموقف النبوي مع أنس بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه في غزوة حنين دلالة على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم البالغ بمعرفة أحوال أعدائه، وفي وجوب اليقظة وتعرف أحوال العدو، ومراقبة حركاته، ومعرفة ما عنده من القوة. وفيه معجزة نبوية حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ما حشدته هوازن من قوة ستكون غنيمة للمسلمين، وقد وقع ما أخبر به. وفيه منقبة عظيمة لأنس بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه، وفضل الحراسة في سبيل الله عز وجل. وفيه تسابق الصحابة رضوان الله عليهم وحرصهم على ما فيه صالح المسلمين وخدمة لدينهم، كما فيه شدة وحرص الصحابة رضوان الله عليهم على طاعة أوامر نبيهم صلى الله عليه وسلم، إذ لم يبرح أنس رضي الله عنه مكانه في الحراسة إلا في حدود قضاء حاجته والصلاة، ومن ثم فاز ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أوجبت، فلا عليك أن لا تعمل بعدها)، وهكذا تكون الطاعة والامتثال لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم ففيها الهداية والفوز في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا}(النور:54)، وقال: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم}(النساء:13).