من الإعجاز القرآني التحليلي في قصة الأرض المقدسة

0 1100

هذه القصة العجيبة تصور العقلية المعاندة المستكبرة عند بني إسرائيل بصورة تبعث على الحيرة والتعجب في الوقت ذاته؛ فقد حكى الله كيف تلطف موسى عليه السلام معهم، وخاطبهم بأجمل الألفاظ، وأفضل الأساليب، وأكثرها رفقا ومحبة وتحفيزا، فهو يقول لهم: {ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} [المائدة:20]، وهنا تظهر النفسية الإسرائيلية المعاندة المتلاعبة بالجمل والألفاظ العابدة لذاتها، وتظهر في القصة تفاصيل خاصة تبين المقدار الهائل لتحريف بني إسرائيل الكلم عن مواضعه، ونسيان حظ مما ذكروا به، وترى كيف صورت القصة تمردهم على أعظم أنبيائهم، ونقضهم لميثاق السمع والطاعة الذي أخذ عليهم، وهذا النموذج يجسد مقدار تلاعبهم بالأحكام الشرعية التي يؤمرون بها، كما يبين أنهم لم يذعنوا لرسالة موسى فكيف يذعنون لرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الوقت يبين قلة الثلة المباركة فيهم، واستضعافها من قبلهم، وسنأخذ ثلاثة مشاهد من القصة يظهر فيها التحليل القرآني النفسي والتربوي للبشرية مما يرسم صورة مذهلة للأسلوب القرآني في السرد القصصي:

المشهد الأول: موسى عليه السلام والتذكير المتطلف اللين:

انظر إلى التعبير القرآني عنه: {وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} [المائدة:20] ها هو موسى عليه الصلاة والسلام يبين لهم بمحبة عالية، وإقبال مشفق، وأسلوب محفز {وإذ قال موسى لقومه ياقوم}، فانظر لهذا التلطف، ثم يمضي في تذكيرهم بنعم الله عليهم بأسلوب يدل على المدح العظيم فيقول: {اذكروا نعمة الله عليكم} أي: اذكروا كيف فضل الله بني إسرائيل فآتاهم الله من المفاخر ما لم يؤته غيرهم، وبين لهم عظمة النعم التي اختصهم الله بها حثا للقيام بتبعاتها، وعدد لهم أصول هذه النعم فذكر أنها ثلاثة أصول:

الأصل الأول: {إذ جعل فيكم أنبياء} فذكر الأنبياء مع مجيئهم لغيرهم لكثرتهم في بني إسرائيل.

الأصل الثاني: {وجعلكم ملوكا}، ويظهر لي أن هذا التوصيف دقيق جدا وهو مستمر فيهم غالبا –وإن تقطع في بعض الفترات الزمنية- فإن بني إسرائيل في عصرنا مثلا ملوك حقيقيون، فلا تجد الجواز الإسرائيلي إلا رأيت خضوع العالم له بصورة لا تكون إلا للملوك، وانظر إليهم كيف مكنهم الله من القدرة على التحكم بمصائر الدول والأمم بما أوتوا من خبث ودهاء، ويكفي سيطرتهم على مقاليد صناعة القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في كثير من دول العالم، وتأمل كيف يخطب المتنافسون انتخابيا على طلب ودهم مع قلة عددهم، وتدني نسبتهم بالنسبة لبقية الطوائف الأخرى، ويكفي أن نشير إلى التأثير المدهش لأسرتي روتشيلد وروكفلر في بعض أكبر دول العالم كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ويكفي أن نشير إلى هذا التحكم بما لخصه ماير أمشيل Mayer Amschel Rothschild في قوله: "Give me control of a nation's money and I care not who makes it's laws"، ومعناها "امنحني سلطة التحكم في مال أمة, ولن اهتم بمن يسن القوانين".

فانظر لدقة وصف القرآن الكريم لأوضاعهم، فهم حقا ملوك لا ينازعون في ملكهم، ولا تأفل سيطرتهم إلا إذا نهض المؤمنون فراجعوا إيمانهم، ولذا كانت من أولويات اليهود الحيلولة بين المؤمنين والرجوع إلى دينهم.

الأصل الثالث: {وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} [المائدة: 20]:

ومن ذلك الذكاء المفرط، والفهم الثاقب، ولذا نشأ منهم كبار من ينسبون إلى العلوم كأنشتاين ونيوتن، وكبار المحتالين العالميين المفسدين ككارل ماركس وفرويد، ولهم وفق ما آتاهم الله من ذكاء القدرة الفائقة على التنسيق فيما بينهم والمناورة، والحرص على الإمساك بالمراكز العالمية الحساسة، ولا أدل على ذلك من هذه القدرة المدهشة على البقاء محتلين لفلسطين أمام العالم في محيط إسلامي يستطيع أن ينتصر منهم بأبسط طريق لو كانوا يفقهون.

المشهد الثاني: تبعات التفضيل، ومقتضيات الاصطفاء:

{ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين} [المائدة:21]:

بعد أن بين لهم المقدار العظيم الهائل الذي جاءهم من نعم الله تعالى قال لهم: {ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} [المائدة:21]، فكأنه يقول لهم من تبعات هذه النعم أن يكون هناك اختبار حقيقي لتبينوا جدارتكم باستحقاق هذه النعم، وأهليتكم لتستمر هذه النعم لكم، وهذا الاختبار يتمثل في القيام بدخول الأرض المقدسة والثبات في الطاعة والقتال لانتازعها من الكفار الجبارين لتقوموا أنتم من خلالها بنشر مبادئ الإيمان في العالمين، ومن خلال ذلك تثبتون العدالة الدولية، ومبادئ الفلاح البشري {ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين} [المائدة:21].

و(اللام) في قوله {التي كتب الله لكم} تدل إما على الاستحقاق لأنهم يظهرون التوحيد في تبعيتهم لموسى عليه الصلاة والسلام، أو للاختصاص للسبب ذاته، ومعنى هذا أنهم إن لم يقوموا بالإسلام الذي جاء به موسى عليه السلام، وقام به غيرهم، فقد صار الاستحقاق والاختصاص مصروفا إلى من تبعوا موسى والأنبياء، وأقاموا الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نحن أحق بموسى منكم) رواه ابن ماجه.

المشهد الثالث: نقضهم لميثاق (سمعنا وأطعنا):

اسمع وليأخذك العجب من هذه النفوس المستسلمة إلى عنادها وصلفها ومرضها النفسي {قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} [المائدة:22].

انظر إليهم: يرفضون القيام بتبعات الميثاق، وحتى يرضوا ضمائرهم المريضة وجماهيرهم العريضة يبحثون عن وسيلة لتحريف التأويل بإظهار العذر الدائم عن مواجهة قوم أقوى منهم {قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين}، فالمواجهة لا يمكن أن تتم من حيث الأصل ربما لأنها تعني في عرفهم الاستئصال، والحكمة عندهم بذلك تقتضي عدم المواجهة حتى يخرج الله أعدائهم بأسلوب معجز لا يظهرون فيه التضحيات، ولا يقدمون التبعات {وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها} لم يبينوا كيف سيخرجون منها؛ لأن ذلك لا يهمهم.. الذي يهم عندهم أن يخرجوا منها، وحسب السياق فذلك لا يمكن أن يكون بفعلهم في تصورهم السقيم، بل بمعجزة ما أو بفعل غيرهم، {فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} [المائدة:22].

هكذا ترسم الآيات بصورة شيقة رائعة كيفية التعامل الدعوي المتلطف مع قوم يغلب عليهم العقليات المعاندة، وقد حلل الأسلوب القرآني نفسيتهم، وتعللاتهم، واعتذاراتهم التي لا تنتهي على نحو يعظ السامعين، ويزكي المعتبرين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة