- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:تاريخ و حضارة
لقد أصبح في حكم المسلم، أن هناك فرعا من فروع "علوم التاريخ" استغل في هذا العصر على نحو غير مسبوق، في مجال الصراع العقدي والحضاري للأمم. ولم يجار العالم الغربي عالم آخر في استغلاله، كما لم يستغله الغرب في حق أمة مثلما استغله في حق المسلمين.
كان ذاك الفرع المعرفي هو "تاريخ العلوم"، فقد استثمر أخطر استثمار - كجزء من الصراع بين الغرب وخصمه الحضاري الأول- لجعل الإنسان الغربي يحس بسيادته على الوجود البشري، وتفرده بالعبقرية، والحضارة، والعلم، والفن...، وجعل المسلمين بالذات مهزوزي الثقة تجاه دينهم، وتاريخهم، وحضارتهم، وهو ما أدى – بكل أسف - دوره بنجاح واضح، يظهر في تلك المساحات الواسعة من القوى الحية في البلاد المسلمة، حيث ينتشر الإلحاد، والاستهتار بالدين، والقيم، والإرث الثقافي، والبحث عن الخلاص الحضاري في التبعية للنموذج الفكري في الغرب دون أي وعي يمحص و يوازن ويدقق.!
ورغم كون هذه الظواهر ليس من الموضوعية حصرها في العامل المشار إليه، بل إن للمسلمين أنفسهم فيها دورا هو لا شك أخطر، ورغم خطيئة التوجه الانغلاقي في التعاطي مع الآخر، فإن قصة هذا الاستغلال الخطير واقع لا مناص من مواجهته.
قام هذا الجهد الغربي الكبير، على توظيف "تاريخ العلوم" من خلال نسبة كل عبقرية علمية إليه، وتجريد التاريخ العلمي للمسلمين من أعظم إنجازاته، وصفوة مساهماته في الحضارة الإنسانية.
ولأن النماذج التفصيلية، في الموضوع تفوق الحصر، نقتصر على الإشارة المقتضبة إلى ثلاث نماذج بارزة، لعل تسليط الضوء عليها، يساهم في إشاعة الحقيقة، وتركيز إحساس أجيالنا الصاعدة بتاريخها الحضاري العلمي العظيم.
أولا: المنهج التجريبي
إنها لجلية تلك المكانة السامقة التي تبوأها" المنهج التجريبي" في حياة العالم الحديث. ألا يكفي أنه أهم سر وراء الفتوح العلمية والصناعية الهائلة التي حققتها البشرية في وقتها المعاصر؟ وأن كل الكشوف العبقرية في عالم الإنتاج المادي، مدينة له بفضل كبير؟! بلى، لا جدل.
بيد أن هذا المنهج – ويبدو بسبب ذات الأهمية الحضارية العظيمة ألحق شأن أفكار أخرى عظيمة- بنسب مكذوب، ومنح فضل تقريره إلى من ليسوا أهل الفضل الأول فيه من الغربيين، فدون في كتبهم، ونسي أصحابه الأصلاء في استخراجه وتقريره من المسلمين. لقد أصبح من المطلقات الذائعة أن هذا المنهج ابتكار للفيلسوف الإنكليزي "افرانسيس بيكون"، بحسبانه أول من وضع معالم فلسفة هذا المنهج في القرن17م!
لكن تاريخ العلم يمدنا بحقائق تنفي هذا المعطى السائد، وتثبت أنه بزمان مديد يصل إلى نحو سبعة قرون قبل تدوين "بيكون" لـ "لفلسفته"، كانت الأفكار الأساسية "للمنهج التجريبي" قد بلورها بعض نبغة العلماء المسلمين، من أمثال جابر بن حيان، وأبي بكر الرازي، وابن النفيس.
فهذا جابر بن حيان يقول : [كمال هذه الصنعة العمل والتجربة؛ فمن لم يعمل ولم يجرب لم يظفر بشيء أبدا". ويكرر مرة أخرى في كتابه (الخواص الكبير). "إننا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه، أو قيل لنا وقرأناه، بعد أن امتحناه وجربناه، فما صح أوردناه، وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضا قايسناه على أحوال هؤلاء القوم".
وهذا الرازي يقول: [ عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة مع النظرية السائدة يجب قبول الواقعة، حتى وإن أخذ الجميع بالنظريات السائدة تأييدا لمشاهير العلماء]
ويقول ابن الهيثم في مصنفه البديع (المناظر): [ .. ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نرتقي في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء].
أي أن هؤلاء العلماء المسلمين في مجموعهم، يقررون خلال منهجهم العلمي .. ركنية:
-التمثيل
-الاستقراء
-القياس في المنهج البحثي لديهم.
وهذه ذاتها هي أصول المنهج العملي التجريبي، وليس وراء ذلك إلا تفاصيل، لا تمثل أيا من أركان "فلسفة المنهج العلمي"، الموصل للحقائق الدقيقة، الموصلة بدورها إلى الكشوف العلمية و التي تمثل سر عبقرية الإنتاج المادي.
ثانيا: قوانين الحركة:
مما لا يكاد يكون فيه جدل بين مؤرخي العلم، وجماهير المعرفة، أن السير إسحق انيوتن هو صاحب الفضل في اكتشاف قوانين الحركة الثلاثة، والتي تعتبر فتحا علميا مهد لثورة الحركة الصناعية في وسائل النقل والتواصل في العصر الحديث.
على أن نظرة واحدة على تراث المسلمين العلمي –بهذا الشأن- ما تفتأ أن تطيح بهذه المسلمة، وتعصف بها، وتبدي مدى الزيف الشنيع الذي تأسست عليه، وتظهر انيوتن ليس له من أصالة في إبداعها، وأعظم فضله لا يعدو صياغة وتنسيق هذ القوانين.!
ونكتفي هنا بالإحالة إلى كتابي "المعتبر في الحكمة" للعلامة هبة الله بن ملكا البغدادي، و"الإشارات والتنبيهات" لابن سينا، للمقارنة بين ماجاء فيها من صياغة لقوانين الحركة الثلاثة، وبين صياغة انيوتن هذه القوانين في كتابه "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية"، بعد نحو سبعة قرون مما دبجه هذان الرجلان، وبعد أن ترجمت مآثرهما العلمية إلى المجتمع الأوربي. (يمكن الاطلاع على هذه المقارنة في الصفحات 264 -265 -266 من كتاب: ماذا قدم المسلمون للعالم –ج الثاني. للأستاذ المؤرخ راغب السرجاني فقد أثبت هذه المقارنة بوضوح .. )!
ثالثا: علم الاجتماع
على غرار ما سبق - من نسبة أفكار عباقرة الحضارة الإسلامية، إلى رجال علم غربيين، وتقرير أنهم أصحاب تلك النظريات العلمية المجيدة، لمجرد أنهم سجلوها في كتبهم- نسب علم الاجتماع إلى الفرنسي ذي الأصل اليهودي "دوركايم"، وأصبح هذا من شبه المسلم في تاريخ علم الاجتماع في الدوائر المعرفية الغربية، ويصدر للعالم كمسلمة، رغم أن أصالة ابن خلدون في ابتكار هذا العلم، كانت بحيث لا يجادل فيها إلا مكابر خصيم.!
كيف وهو نفسه أبان بجلاء – قبل وجود دوركايم بنحو أربعة قرون- عن وعيه بعمله التأسيسي في "مقدمته"، يقول: [وهو علم مستقل بنفسه موضوعه العمران البشري والاجتماع، ويهدف إلى بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أم عقليا. واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص. وكأنه علم مستبط النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة].!
وقد أفاض ابن خلدون في "المقدمة" وأرسل العنان للقول بعلم غزير، وبصيرة نفاذة، وقريحة وقادة في أهم الظواهر الاجتماعية، و قواعد العمران البشري، و أبرز فروع علم الاجتماع الذي مازال يدور حولها هذا العلم. مثل حديثه حول "علم الاجتماع السياسي"، وحول "علم الاجتماع الحضري"، و"علم الاجتماع الاقتصادي"، و"علم الاجتماع التربوي"، إلى آخر ما تناول من الفروع العريقة الاتصال بعلم الاجتماع. وهو جهد أصيل فذ لا يقف عليه صاحب نظر، ويساوره شك في جدارة هذا الرجل بإلحاق نسب هذا العلم إليه، باعتباره الأب الأوحد الجدير به.
وكحكم عام، فإن أي منصف حين يقرأ بعقل يوازن ويحقق: "مناظر" ابن الهيثم و "خواص" جابر بن حيان، و"معتبر" ابن ملكا، و"إشارات" ابن سينا، و "مقدمة" ابن خلدون، لا يملك إلا أن يأخذ منه العجب والاستنكار كل مأخذ، وهو يرى سرقة أفكار المسلمين، وبيعها في سوق الكتب الغربية، ولا يسعه إلا أن يعترف لهؤلاء الجاهبيذ من رجال المسلمين بعبقرياتهم الفذة، ويهنئ التاريخ الإسلامي بذلك الأداء الحضاري المعرفي المتفرد، ويخرج بخلاصة معرفية واضحة، مؤداها: أن كثيرا مما يذاع على أنه "نظريات فذة"، من إبداع الغربيين، إن هو إلا "أفكار المسلمين"، في "كتب الغربيين".!