ضوابط ومعايير في نقد المتن والإسناد

0 1615

يكثر في أيامنا هذه الاستخفاف والاستهانة بالسنة النبوية الشريفة، ويظهر هذا واضحا على العديد من الفضائيات، حيث نرى كل من هب ودب من الناس - على اختلاف تخصصاتهم وتوجهاتهم - يتطاولون في الطعن والتشكيك في صحيح الإمام البخاري وغيره من كتب السنة المطهرة، وقد تمادوا في ذلك إلى درجة باتت مقلقة ومزعجة، حيث نراهم قد ردوا العديد من الأحاديث الصحيحة بدعوى مخالفتها للحس أو العقل كما يقولون، وقد يدعي بعضهم مخالفتها للقرآن الكريم، أو للواقع، أو لبعض نظريات العلم الحديث، فما هي المعايير السليمة والصحيحة لنقد الحديث أو رده، وهل يحق لأي واحد أن يأخذ هذه المعايير ويطبقها على الأحاديث ليقبل ما شاء ويرد شاء من الأحاديث، هذا ما نحاول الإجابة عليه في هذا المقال، وهو موضوع هام حساس، وشائك في ذات الوقت، ولا يصلح أن يتكلم فيه إلا من هم على دراية بمصطلحات الحديث الشريف، والقادرين على فهم كلامهم، ولم يقف بعض هؤلاء عند هذا الحد، بل تجاوزه بعضهم فأصبح ينتقد آيات القرآن الكريم، وبعض التعاليم الإسلامية المعلومة من الدين بالضرورة، من هنا تأتي أهمية ما سنتناوله في هذا المقال.

المعايير والضوابط

لا شك أن هناك معايير وشروط خاصة وضعها أئمة أهل الحديث يمكن بها رد الحديث أو انتقاده بكافة مستويات الانتقاد، ولا بد من مراعاة هذه المعايير والأسس التي سار عليها علماء الحديث في نقد متن الحديث أو إسناده، ولا بد من تطبيق هذه القواعد بطريقة سليمة عند نقد أي متن أو حديث من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتم تطبيق هذه المعايير السليمة الصحيحة، أصبحت الأحاديث مستباحة، وأصبح بإمكان كل شخص أن يقول: هذا الحديث لا يعجبني أو لا أراه صحيحا فيرده، فيكون هذا سببا في رد الكثير من الأحاديث الصحيحة، وفي قبول أحاديث أخرى تعجبهم لا تنطبق عليها شروط الصحة والقبول، ولكنها توافق هواه أو عقله، لأن معناها في نظره صحيح.

ولا شك أن المستشرقين وأتباعهم من أصحاب النفوس المريضة قد ساهموا وساعدوا في فتح هذا الباب، وفي محاولة تحطيم هذه المعايير، وذلك بإثارتهم وتركيزهم على قضية أن علماء الحديث قديما كانوا يهتمون بالأسانيد أكثر من اهتمامهم بالمتون، وأنهم كانوا يقبلون الحديث أو يردونه بمجرد تصحيحهم للسند، دون الاهتمام بمتنه أو معناه، والصحيح أن علماء الحديث منذ نشأة هذا العلم كانوا ولا زالوا يهتمون بالمتن اهتماما لا يقل عن اهتمامهم بالسند، وقرروا منذ اليوم الأول أن الحديث قد يكون صحيح السند ضعيف المتن، وقد يكون ضعيف السند صحيح المتن. من هنا فإن أهمية هذا الأمر تزداد وتظهر من خلال الوقوف على هذه المعايير التي أخذ بها المحدثون في نقدهم لمتن الحديث، والوقوف على حجم الأحاديث الكثيرة التي ردوها بالنظر إلى متنها، رغم إقرارهم بصحة إسنادها، والوقوف على عدد الرواة الذين حكم عليهم العلماء بالضعف من خلال النظر فيما يروونه من أحاديث، وعدد الرواة الذين نفوا عنهم الضعف من خلال النظر في مروياتهم.

ويمكن إجمال هذه الضوابط التي وضعها علماء الحديث في عدة أمور منها: مخالفة الحديث لصريح القرآن، ولما هو صحيح ثابت من الحديث النبوي، ولصريح العقل والحس، وللحقائق التاريخية، وكون الحديث مما لا يشبه كلام النبوة، ولا يتسع المجال لإيراد الأمثلة والنماذج على مثل هذه الأحاديث التي ردها العلماء بمخالفتها لواحد من هذه القواعد، ومن هذه النماذج حديث: (لا يدخل الجنة عاق، ولا مدمن خمر، ولا منان، ولا ولد زنية) أخرجه الإمام أحمد، حيث قال العلماء: ما ذنب هذا الطفل بكونه ابن الزنا حتى لا يدخل الجنة؟ فالذنب ذنب غيره، والله تعالى لا يظلم أحدا مثقال ذرة، فهو مخالف لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164).

أمثلة على تضعيف الأحاديث من خلال النظر إلى متنها

من الأمثلة على مخالفة الحديث لصريح العقل والحس قوله صلى الله عليه وسلم: (أكذب الناس الصباغون والصواغون) رواه ابن ماجه، فهو حديث ضعيف من حيث الإسناد، لأن فيه الراوي فرقد السبخي وهو ضعيف، وفيه عمر بن هارون كذبه ابن معين، ولكنهم قالوا: كيف يمكن أن يكون أصحاب هذه الحرفة هم أكب الناس، وهل من المعهود أن يذم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من أصحاب الحرف والصنائع من أجل نوع حرفته، لذلك فإن هذا الحديث يخالف المحسوس؛ إذ يمكن أن نثبت أن أصحاب هذه الحرفة أكذب من أصحاب حرفة أخرى.

ومن الأمثلة كذلك لمخالفته للواقع والتاريخ، ما جاء في القصة المشهورة أن بعض اليهود أظهروا كتابا في زمن الخطيب البغدادي ادعو أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يقول فيه بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات لبعض الصحابة، فعرضوه على الخطيب البغدادي فنظر فيه وقال: إنه مزور، دون أن ينظر في إسناده، وذلك لأن فيه شهادة سعد بن معاذ، الذي كان قد توفي عقب غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة، ومعلوم أن غزوة خيبر كانت في السنة السابعة من الهجرة، وفيه شهادة معاوية بن أبي سفيان، الذي كان إسلامه يوم فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة، أي بعد غزوة خيبر.

أما كون الحديث مما لا يشبه كلام النبوة، فهو كأن يكون الحديث ركيكا في صياغته، وقد كان صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، أو قد يحتوي على مجازفة، أو مما يشبه كلام المتأخرين، ومن أمثلته ما أورده ابن الجوزي في الموضوعات "أن من صلى كذا فله سبعون دارا في كل دار سبعون ألف بيت، في كل بيت سبعون ألف سرير، على كل سرير سبعون ألف جارية"، ثم يقول: وإن كانت القدرة لا تعجز، ولكن هذا تخليط قبيح، أو ما جاء عند أبي داود في سننه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتبع حمامة فقال: (شيطان يتبع شيطانة)، حيث قال العلماء أن هذا الكلام لا يشبه كلام النبوة، وغير ذلك من الأمثلة التي يصعب حصرها وهي في مظانها من كتب الحديث.

اهتمام الصحابة بنقد متن الحديث

لا شك أن الصحابة اهتموا بمتن الحديث منذ العهد الأول، وقد جمع الإمام الزركشي في كتابه الرائع: "الإجابة في إيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" العديد من الأحاديث التي انتقدتها وردتها على بعض أعلام الصحابة الكرام، مثل حديث: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) متفق عليه، الذي يرويه عمر بن الخطاب، حيث قالت عائشة حينما سمعت بهذا الحديث: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه) ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه) وقالت: حسبكم القرآن: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام:164).

اهتمام التابعين بنقد المتن

الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، نذكر منها ما رواه الإمام مسلم من طريق سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي) قال سعيد: فأحببت أن أشافه بها سعدا، فلقيت سعدا فحدثته بما حدثني عامر، فقال: أنا سمعته. فقلت: آنت سمعته؟ فوضع إصبعيه على أذنيه فقال: نعم. وإلا فاسكت. والشاهد من هذا الحديث أن سعيد بن المسيب لم يكتف بسماع الحديث من عامر عن أبيه بل حرص على أن يسمعه مشافهة من سعد، بل إنه أكد السؤال على سعد بقوله: آنت سمعته.

مما هو معلوم عند علماء الحديث أن مرويات الراوي قد تكون سببا في نفي الضعف وذلك مثل ابن إسحاق صاحب المغازي، الذي اختلف فيه علماء الحديث، حيث ضعفه مالك وغيره، ووثقه الزهري وغيره، وقال ابن المديني: حديثه عندي صحيح، وسبب هذا الاختلاف فيه أن العلماء فتشوا في رواياته فتبين أنه لا يوجد من مروياته ما ينكر إلا أحاديث يسيرة، وأجاب بعضهم عن كلام مالك فيه بأنه لم يعرفه ولم يجالسه، ولهذا قال ابن عدي عنه: فتشت أحاديثه فلم أجد في أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو وهم كما يخطئ غيره، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة، وهو لا بأس به.

من هنا أقول: إن علماء الحديث ساروا على معايير محددة، طبقوها تطبيقا دقيقا، فخدموا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونفوا عنها كل دخيل، وأولوا نقد المتن اهتماما كبيرا، وحكموا على الكثير من الرواة بالضعف من خلال النظر في مروياتهم، وأن من يريد أن يتصدى لهذا لا بد أن يكون ذا قدم راسخة في علم الحديث، وأن يتحلى بالتقوى والإخلاص، وإلا فإنه سوف يكون معول هدم، وتشويه لهذا الدين، وللسنة النبوية الشريفة التي أمرنا رسول الله أن نعض عليها بالنواجذ، هذا والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة