إني أَجِدُ رِيحَ الجَنَّة دُون أحُد

0 1437

في شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة النبوية كانت غزوة أحد، تلكم الغزوة التي ضرب فيها الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في البطولة والتضحية، واستشهد فيها سبعون منهم، وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء القتال يتفقد أحوال أصحابه، فرأى الكثير منهم قد فاضت أرواحهم، منهم: حمزة بن عبد المطلب،  مصعب بن عمير، وحنظلة بن أبي عامر، وسعد بن الربيع، والأصيرم، وأنس بن النضر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشهد على هؤلاء، ما من مجروح جرح في الله عز وجل إلا بعثه الله يوم القيامة، وجرحه يدمي، اللون لون الدم، والريح ريح المسك) رواه أحمد.. وأنس بن النضر رضي الله عنه الذي كان واحدا من هؤلاء الصحابة الكرام الذين استشهدوا في أحد، لم يكن ممن شارك في القتال في غزوة بدر، وقد حزن لذلك حزنا شديدا، وقال قولته المشهورة حينئذ: (والله لئن أراني الله مشهدا (قتالا) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع).

وقصة استشهاد أنس بن النضر رضي الله عنه أخرجها البخاري في: باب غزوة أحد، ومسلم في: باب ثبوت الجنة للشهيد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (عمي الذي سميت به (أنس بن النضر) لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، قال: فشق عليه، قال: أول مشهد (قتال عظيم) شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبت عنه، لئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع (كيف أبالغ في القتال والجهاد في سبيله)، قال: فهاب أن يقول غيرها (مخافة أن يقول شيئا يعجز عن فعله)، قال: فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له: يا أبا عمرو أين (أي: يا سعد)؟ واها لريح الجنة أجده دون أحد، فقاتلهم حتى قتل، قال: فوجد في جسمه بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، قال: فقالت أخته عمتى الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}(الأحزاب:23)، فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه). وفي رواية للبخاري: (فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به المشركون - فتقدم بسيفه، فلقي سعد بن معاذ فقال: أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أحد فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة - أو ببنانه - وبه بضع وثمانون: من طعنة وضربة ورمية بسهم).

قال ابن حجر: " قوله: (إني أجد ريح الجنة دون أحد) يحتمل أن يكون ذلك على الحقيقة بأن يكون شم رائحة طيبة زائدة عما يعهد فعرف أنها ريح الجنة، ويحتمل أن يكون أطلق ذلك باعتبار ما عنده من اليقين حتى كأن الغائب عنه صار محسوسا عنده، والمعنى أن الموضع الذي أقاتل فيه يئول بصاحبه إلى الجنة.. قوله: (وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم) ووقع في رواية عبد الأعلى بلفظ: (ضربة بالسيف أو طعنة بالرمح أو رمية بالسهم) وليست أو للشك بل هي التقسيم، وزاد في روايته ووجدناه قد مثل به المشركون، وعنده قال أنس: كنا نرى أن هذه الآية: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}(الأحزاب: 23) نزلت فيه وفي أشباهه".

ثناء نبوي على أنس بن النضر:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن الربيع عمته كسرت ثنية (سن) جارية (امرأة شابة)، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش (الدية) فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟! لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس كتاب الله القصاص، فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) رواه البخاري.
قال ابن حجر: "وقد استشكل إنكار أنس بن النضر كسر سن الربيع مع سماعه من النبي صلى الله عليه و سلم الأمر بالقصاص، ثم قال: (أتكسر سن الربيع)، ثم أقسم أنها لا تكسر، وأجيب بأنه أشار بذلك إلى التأكيد على النبي صلى الله عليه وسلم في طلب الشفاعة إليهم أن يعفوا عنها، وقيل كان حلفه قبل أن يعلم أن القصاص حتم فظن أنه على التخيير بينه وبين الدية أو العفو، وقيل لم يرد الإنكار المحض والرد، بل قاله توقعا ورجاء من فضل الله أن يلهم الخصوم الرضا حتى يعفوا أو يقبلوا الأرش، وبهذا جزم الطيبي فقال: لم يقله ردا للحكم، بل نفي وقوعه لما كان له عند الله من اللطف به في أموره، والثقة بفضله أن لا يخيبه فيما حلف به، ولا يخيب ظنه فيما أراده بأن يلهمهم العفو، وقد وقع الأمر على ما أراد.. وفيه جواز الحلف فيما يظن وقوعه، والثناء على من وقع له ذلك عند أمن الفتنة بذلك عليه، واستحباب العفو عن القصاص والشفاعة في العفو، وأن الخيرة في القصاص أو الدية للمستحق على المستحق عليه، واثبات القصاص بين النساء في الجراحات وفي الأسنان وفيه الصلح على الدية".

وقال النووي: "وقوله صلى الله عليه وسلم (كتاب الله القصاص) أي حكم كتاب الله وجوب القصاص في السن، وهو قوله: (والسن بالسن)، وأما قوله: (والله لا يقتص منها) فليس معناه رد حكم النبي صلى الله عليه وسلم، بل المراد به الرغبة إلى مستحق القصاص أن يعفو، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة إليهم في العفو، وإنما حلف ثقة بهم أن لا يحنثوه، أو ثقة بفضل الله ولطفه أن لا يحنثه، بل يلهمهم العفو، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) معناه لا يحنثه لكرامته عليه".

أراد عز وجل بفضله وحكمته أن يتخذ من عباده شهداء، تراق دماؤهم في سبيله، ويؤثرون محبته ورضاه على نفوسهم، قال الله تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء}(آل عمران:140)، قال ابن كثير: " {ويتخذ منكم شهداء} يعني: يقتلون في سبيله، ويبذلون مهجهم في مرضاته"، ومن هؤلاء أنس بن النضر وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم الذين استشهدوا في يوم أحد، والذي قال الله تعالى عنهم وعن أمثالهم ممن يأتي بعدهم ويحذو حذوهم ـ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ـ: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}(الأحزاب:23).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة