إثارة الشبهات حول الدعوة والدعاة

0 1088

من التحديات والأزمات التي تعانيها الدعوة ويقابلها الدعاة على مر الأزمان واختلاف الأماكن والبلدان، ما يثيره أعداء الدعوة من شبهات حول الدعوة ذاتها أحيانا، أو حول الدعاة أنفسهم في أحيان أخرى.
ونقصد بالشبهات هنا: كل أمر يثير الشك والارتياب في قلب المدعو؛ فيمنعه من معرفة الحق واتباعه.

مصدر الشبهات
ومصدر الشبهات في غالبها أو مجملها هم الملأ، وهؤلاء كانوا ومازالوا مصدر معظم هذه الشبهات، يثيرونها وينشرونها ويكررونها على الناس حتى تألفها أسماعهم، وتشربها قلوبهم؛ فيصدقونها، ويتبنون الدفاع عنها، ويخاصمون الحق من أجلها.

ومعظم هذه الشبهات تأتي دفاعا عن عادة موروثة، وأو حمية جاهلة، أو مصلحة دنيوية، أو رياسة أو جاه.. وهي في مجملها أمور متكررة مع جميع الأنبياء والمرسلين والدعاة والمصلحين، والمخلصين من دعاة الحق والإصلاح في كل حين، ينقلها المتأخر عن المتقدم، واللاحق عن السابق؛ كما قرر ذلك سبحانه في كتابه العزيز: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك}، و{كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون . أتواصوا به بل هم قوم طاغون}، وقال: {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ۗ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ۘ تشابهت قلوبهم }(البقرة:118).

أقسام الشبهات:
والشبهات التي تثار لا تخرج في مجملها عن ثلاثة أقسام:
1 ـ شبهات تتعلق بالدعاة: والغرض منها إبعاد الناس عنهم، وتنفيرهم منهم ومن دعوتهم.. وقد يكون ذلك بـ:
أ ـ الطعن في عقولهم: كرميهم بالجنون أو السفه أو الضلال.. كما قال قوم نوح لنبيهم: {إنا لنراك في ضلال مبين}(الأعراف:60)، وقالت عاد لهود عليه السلام: {إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين}(الأعراف:66).. وقال فرعون عن موسى عليه السلام: {قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون}(الشعراء:27)، وقول كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون}(الحجر:6).. وسورة الشعراء فيها أمثلة لأقوال الملأ في كل قوم لمن أرسله الله لهم رسولا من اتهامات وتخويف بالتنكيل والعذاب والإخراج.

ب ـ الطعن في شخوصهم: ككون الداعي رجلا مغمورا غير مشهور؛ فلا هو من المثقفين الكبار، ولا هو من الأغنياء الأثرياء، ولا حتى من أصحاب المناصب والوجاهات، وإنما رجل مغمور غيره أولى منه بهذا المقام، كما ذكر الله عنهم قولهم: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}(الزخرف:31)، وقولهم: {وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين}(سبأ:35).

جـ ـ الطعن في مقاصدهم: وذلك بادعاء أنهم يريدون من وراء دعوتهم الإفساد في الأرض، أو طلب الرياسة والوجاهة والملك:
فالأول كما قال الملا من قوم فرعون له: {وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك}(الأعراف:127)، وكذلك قول فرعون: {ذروني أقتل موسى وليدع ربه ۖ إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}(غافر:26).

وأما الثاني وهو ادعاء طلب الرياسة والوجاهة والعلو على قومهم والتفضل عليهم، فكما قال قوم نوح: {ما هذا إلا رجل مثلكم يريد أن يتفضل عليكم}، وقال قوم فرعون لموسى وهارون: { أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين}(يونس:78)، وقال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {أجعل الآلهة إلها واحدا ۖ إن هذا لشيء عجاب}(ص:5)، ثم أوصى بعضهم بعضا {أن امشوا واصبروا على آلهتكم ۖ إن هذا لشيء يراد}(ص:6)، قال المفسرون: أي يريد محمد من وراءه أن تكون الزعامة له عليكم.

د ـ اتهامهم بالصد عن دين الآباء ودين القوم وطريقتهم المثلى: كما في قول قوم شعيب له: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ۖ إنك لأنت الحليم الرشيد}(هود:87).. وقالت ثمود لنبيها صالح عليه السلام: {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب}(هود:62)، وقال فرعون وملؤه عن موسى وأخيه: {إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى}(طه:63)، وفي سورة سبأ: {قالوا ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم}، وفي سورة إبراهيم قال الملأ لرسلهم: {إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا}، وفي سورة يونس {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا}، وقد أخبر سبحانه أن هذه شبهة متكررة لجميع الأمم {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}(الزخرف:23).

هـ ـ اتهامهم بالعمالة والخيانة والتخابر والتآمر والاتصال المشبوه وتنفيذ أجندات خارجية: والعجيب أن تكون هذه أيضا تهمة قديمة رمى بها الكفار والضلال المرسلين وأتباع النبيين بأنهم مأجورون لقوم يريدون بالمدعوين الشر: { وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ۖ فقد جاءوا ظلما وزورا } (الفرقان: 4)، ومثله قوله تعالى في سورة النحل: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر}.

و ـ التعلل ببشرية الرسل، وأن الله لو أراد أن يبعث رسولا لبعث ملكا من الملائكة ليبلغ مراده للناس.. كما قال قوم نوح عندما جاءهم نوح عليه السلام: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين}(المؤمنون:24)، ولما جاءت الرسل عادا وثمود {قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون}(فصلت:14)، وقد رد الله عليهم هذه الشبهة بقوله: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا}(الإسراء: )؛ إذ الرسول لابد أن يكون من جنس قومه ليصلح به الاقتداء والأسوة، وليأنسوا به ولا يستوحشوه، وليتحملوا رؤيته والجلوس معه والتلقي عنه وهذا ما لا يتوفر في الملك معهم إلا أن يتشكل لهم ولذا قال سبحانه: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون}(الأنعام:9).

ثانيا: شبهات تتعلق بالدعوة نفسها:
أنها أساطير الأولين
: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ۙ قالوا أساطير الأولين}(النحل: 24)، وقال في سورة الأنفال: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين}، وفي سورة الأنعام: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ۚ حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين}، وفي سورة الفرقان: {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا}..

أنها دعوة مخترعة مكذوبة على الله: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ۗ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}، وقالت قريش: {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة} يعني: لو كان هذا القرآن حقا لأخبرتنا به النصارى، {إن هذا إلا اختلاق} قال مجاهد: كذب، وقال ابن عباس: تخرص.

وهناك شبهات واتهامات أخرى للدعوة بأنها خروج عن عادات الناس وموروثاتهم ونظامهم، أو اتهامها بالقصور عن مطالب الناس ومتطلبات عصرهم، أو كونها تصلح لزمان ولا تصلح لزمان آخر، إلى غير ذلك.

وأما الشبهات حول أتباع المرسلين:
فتركزت في أمر غالب هو أنهم سفلة القوم وأراذلهم، وأن أمثال هؤلاء لا يصلحون للاقتداء بهم، وأن يستأثروا بالحق دون الملأ أهل المال والجاه والسلطان.. فلو كان هذا الدين خيرا لما سبق المستضعفون الأكابر إليه، ولما فاز به العبيد دون السادة والمرؤوسين دون الرؤساء.. قال الله عز وجل عن قوم نوح: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين}(هود:27)، وقالوا أيضا: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون}(الشعراء:)، وقالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أسلم ضعفاء القوم كزنيرة والمهدية وبلال وأمثالهم: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ۚ وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}(الأحقاف:11).

ومعلوم أن المستضعفين هم أتباع الرسل في كل زمن؛ لأن الرسالة تنصفهم من ظلم السادة والأكابر وأصحاب النفوذ، وترد لهم الاعتبار وتجعل لهم قيمة، وتسويهم بمن سواهم، فلا تجعل لأحد عليهم سلطانا خارج سلطان الدين، ولا ترفع أحدا عليهم إلا بميزان التقوى؛ ولهذا قال هرقل لأبي سفيان: [وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فزعمت أن ضعفاءهم الذين اتبعوه، وهم أتباع الرسل].

كانت هذه هي أشهر الشبهات التي أثارها الكفار والمارقون وأعداء الدين حول الدعوة وأتباعها والدعاة إليها والعاملين في حقلها، ولا زالت تلك الشبهات منذ نوح إلى عصرنا هذا تتكرر عبر العصور وإن اتخذت أشكالا جديدة، وكلها شبهات واهية رد عليها القرآن الكريم، وفندها الرسل المكرمون، والعلماء المخلصون؛ فردوا كيد أصحابها في نحورهم، ودحروهم بالحجة والبرهان، كما أن الله تكفل بنصرهم بالسيف والسنان، {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة