- اسم الكاتب:د. راغب السرجاني
- التصنيف:تاريخ و حضارة
إن الحكمة الكاملة من نزول القرآن الكريم باللغة العربية لا يعلمها إلا الله ، ولكن من المعلوم والواضح أن اللغة العربية ثرية جدا، بل هي أثرى لغة عرفت في الأرض، الشيء الواحد له أكثر من اسم في هذه اللغة العظيمة:
فالعسل له ثمانون اسما، والثعلب له مائتا اسم، والأسد له خمسمائة اسم، والسيف له ألف اسم. وإذا أردت أن تصف أحدا بأنه داهية فلديك عدة أسماء يمكنك أن تسميه به. كما أن الكلمة الواحدة وبنفس ضبطها، قد يكون لها معان كثيرة لا تحصى.
كل هذا أعطى اللغة العربية إمكانات هائلة، فتنزل الآية بكلمات قليلة محدودة، ومع ذلك فإنها تحمل من المعاني ما لا يتخيل حصره، وكلما نظر مفسر في الآية استخرج منها معاني معينة، وقد ينظر المفسر الواحد في الآية أكثر من مرة، فيخرج منها كل مرة بمعنى جديد إضافي، وتمر الأزمان والأزمان ويأتي مفسرون يستخرجون معاني جديدة، وصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما وصف القرآن بأنه: لا يخلق (أي لا يبلى) من كثرة الرد، أي من كثرة الترديد والقراءة.
وكانت كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا باللغة العربية، وآتاه الله عز وجل جوامع الكلم، فكان يقول الحديث من الكلمات القليلة جدا، فإذا به يحوي أحكاما لا تنتهي. فهي لغة عجيبة جدا.
وما دام الله قد اختار أن ينزل القرآن باللغة العربية، فلا بد أن ينزله إلى قوم يتحدثون العربية، بل وصلوا فيها إلى أعظم درجات الإعجاز البشري، فصار لديهم إتقان عجيب للغة، والتصرف فيها كما يشاءون.
اللغة في ألسنتهم سهلة لينة طيعة، والشعر عندهم أمره عجيب، فالمعلقات الهائلة كانت تعلق في الكعبة، وهم يقولون الشعر في كل الظروف؛ في الفرح والحزن، في الحرب والسلم، حتى قبل الموت والسيوف على الرقاب يقولون الشعر، والمعارضة بالشعر فن أصيل لديهم، يقول الواحد منهم بيتا، فيرد عليه آخر فورا ببيت على نفس الوزن ونفس القافية، وفي نفس المعنى.
الإعجاز القرآني الفريد:
ونحن قد رأينا نجاح التجربة الإسلامية في الجزيرة العربية، ولا بد أن من عوامل نجاحها إتقان أهل هذه البقاع للغة العربية، وذلك لأنه أولا: كان أدعى لإيمان الناس بكلام الله عز وجل، وبإدراك الإعجاز الإلهي في كل سورة وفي كل آية، قال تعالى: {ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} [الشعراء: 198، 199].
العرب المتقنون للغة أدركوا من اليوم الأول، ومن اللحظة الأولى أن هذا كلام معجز.
لم ينقدوا آية واحدة من آيات القرآن الكريم، ولم يعارضوا القرآن بمثله أبدا، لم يجتمع شعراؤهم وأدباؤهم وحكماؤهم ليؤلفوا آية واحدة مع تحدي القرآن لهم بتأليف قرآن مثله أو عشر سور أو حتى سورة واحدة، فلم يستطيعوا وما حاولوا، إنهم في حالهم هذه كرجل قوي طلبت منه حمل عمارة سكنية، إنه قوي فعلا، ولكن حمل العمارة بالنسبة له حلم كالمعجزات، إذن معرفة العربية أدعى لفهم الإعجاز العجيب في كتاب الله.
وليس هذا مقصورا فقط على الإعجاز اللغوي، بل أي نوع من أنواع الإعجاز في القرآن يحتاج فهما دقيقا للغة، وإتقانا بارعا لها، حتى الإعجاز العلمي الذي نتكلم فيه في عصرنا هذا، كيف لنا أن نستخرج الإعجاز العلمي الذي نتكلم فيه في عصرنا هذا من القرآن دون فقه اللغة ومعرفة معنى الكلمات والآيات، والمقصود من ورائها.
والذي يقرأ تراجم معاني القرآن بأي لغة يدرك تماما أن كثيرا من الإعجاز يختفي عند ترجمة المعاني للغة الأخرى، ويدرك بوضوح قصور أي لغة عن الوصول إلى ما وصلت إليه اللغة العربية، ويدرك كذلك أن الذي يحمل هذه الأمانة أمانة إقامة أمة إسلامية قوية لا بد أن يكون متقنا للغة العربية، معظما لها، مربيا أولاده ومجتمعه على احترامها وتقديرها ودراستها دراسة متعمقة تقرب إليه معاني القرآن الكريم، ومعاني الحديث الشريف، فيستطيع أن يفهم مصادر التشريع، ثم يستطيع بعد ذلك أن يتحرك بهذه الرسالة.
أخبرني كيف يمكنك أن تترجم قول الله عز وجل : {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين} [هود: 44].
إن تسعين بالمائة أو أكثر من جمال الآية وإعجازها يضيع إذا ترجمت إلى لغة أخرى، ويمكنكم أن تراجعوا ترجمات معاني القرآن الموجودة بأي لغة لتتأكدوا مما أقول.
وكذلك الحديث الشريف لا يمكن لأحد أن يستمتع به ويفهمه وينقله لغيره لو ترجم لغير اللغة العربية.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتفي في كثير من الأوقات بقراءة القرآن على الناس فيؤمنوا به، أوعلى الأقل يقتنعون أنه الحق، لأنهم يعلمون أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون من كلام البشر.
أما الآن فإن اللغة العربية بالنسبة لكثير من أبناء هذا الجيل أصبحت طلاسم، وقد صارت طوائف كثيرة من المسلمين كالأعجمين الذي قال الله عز وجل في حقهم كما ذكرنا منذ قليل: {ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} [الشعراء: 198، 199].
نريد أن نتأثر بالقرآن مثلما كان الأولون يتأثرون به، ولن يكون هذا بغير لغة.
سيمر علينا في السيرة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد كان بسماع بضع آيات من صدر سورة طه.
كذلك آمن الطفيل بن عمرو الدوسي لسماع آيات الله تتلى، وهكذا آمن أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهم جميعا.
كما روى البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، وكان جبير في ذلك الوقت مشركا يزور المدينة، يقول جبير: فلما بلغ الآية: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون} [الطور: 35- 37] قال: كاد قلبي أن يطير.
ثم مال جبير إلى الإسلام وأسلم.
بل كان هذا الأثر يحدث عندما يتلى القرآن على الكفار، وانظر إلى موقف عتبة بن ربيعة ، وموقف الوليد بن المغيرة، وموقف زعماء بني شيبان، وموقف زعماء بني عامر.
كلهم كان يتأثر بالقرآن لمعرفتهم الكاملة باللغة العربية، وإن كانوا لا يتبعونه لأسباب أخرى، هي مصالح دنيوية صدتهم عن الحق.
جهود أعداء الأمة في مقاومة اللغة العربية:
إذن من أهم عوامل نجاح الرسالة الإسلامية في هذا المكان الذي نزلت فيه هو إتقان الدعاة للغة، وكذلك إتقان المدعوين لها، ولذلك كان من هم المحاربين للإسلام الذين فقهوا هذه النقطة جيدا أن يضربوا اللغة العربية في أعماقها، وهم يدركون أنه لو وقعت اللغة العربية سيقع ما بعدها من الشرع. لذا فإن من أول أعمال (أتاتورك) عندما بدأ في علمنة تركيا هو إلغاء اللغة العربية.
- اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر إبان احتلال بريطانيا لمصر أراد أن يضرب الأزهر والمدارس الدينية، فماذا فعل؟ لم يغلقها حتى لا يثير الناس، ولكنه أنشأ مدارس علمانية بجوار الأزهر تكون الإنجليزية هي لغتها الأساسية، ثم فتح لخريجي هذه المدارس فرص عمل في البلد بأجور أعلى من فرص العمل المتاحة لأبناء الأزهر والمدارس الدينية، ومن ثم توجه الناس لإدخال أبنائهم مدارس اللغات بحثا عن فرص عمل أفضل، وزهد الناس في الأزهر، وزهدوا في اللغة، ثم زهدوا بعد ذلك في الشرع.
إن اليهود عندما أرادوا أن ينشئوا دولتهم على أرض فلسطين، وجمعوا شتاتهم من بقاع الأرض، ماذا فعلوا؟ لقد علموا أبناءهم اللغة العبرية إلى درجة الإتقان قبل أن يأتوا بهم إلى أرض فلسطين، ثم أنشئوا الجامعة العبرية أول نزولهم الأرض فلسطين، ودرسوا مناهجهم باللغة العبرية كلغة أولى وليست ثانية، وهم بذلك حققوا أكثر من هدف:
1- زرعوا العز في قلوب اليهود للغتهم ومن ثم لدينهم.
2- حدث التواصل بين اليهود الذين جاءوا من بلاد شتى.
أضرار فقدان اللغة المشتركة بين المسلمين:
مأساة ضخمة أن يفقد المسلمون التواصل بينهم لعدم وجود لغة مشتركة، فالأمة الإسلامية تتحدث عشرات اللغات، أليس عيبا أن يضطر المصري أن يتكلم مع الباكستاني -مثلا- باللغة الإنجليزية ليفهم أحدهما الآخر رغم كون الاثنين مسلمين؟!
فوق ذلك فداخل البلاد التي تتكلم العربية عشرات اللغات العامية، وأقول اللغات وليس اللهجات، فكل كلمة أصبح لها بدائل لا تمت للغة العربية بصلة، وأصبح من الصعب جدا على مسلمي قطر عربي أن يفهموا مسلمي قطر عربي آخر، وهذا من العجب.
والطامة الكبرى أن يظهر جيل يفتخر بأنه لا يحسن العربية، ويفتخر الأب، وتفتخر الأم أن الابن يتكلم الإنجليزية بطلاقة، ولا يفقه شيئا من العربية.
تعلم اللغات الأجنبية:
ومن الجدير بالذكر أن أشير هنا إلى أنني لست ضد تعلم اللغات الأجنبية، أبدا بل أحبذ ذلك وبشدة، ولكن ليس على حساب اللغة العربية.
إننا يجب أن نصل باللغة العربية إلى جميع آفاق الأرض لنعلم الناس القرآن، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كنا لا نستطيع ذلك الآن، فليس أقل من أن نحافظ على اللغة العربية في ديارنا.
وليعلم المسلمون أن من أهم وسائل إعادة بناء الأمة الإسلامية: الاهتمام باللغة العربية، وتعليمها لغيرنا، وتجميلها في عيون أبنائنا.
إذ هنا قاعدة مهمة نخرج بها من هذه النقطة، وهي الجيل الذي يرجى على يده إصلاح شأن الأمة جيل يتقن العربية ويعظمها، وليس هذا من منطلق قومي، أبدا، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولكن من منطلق أن من تكلم العربية فهو عربي، ولو كان من عرق مختلف، فالباكستاني الذي يجيد العربية عربي، والإندونيسي الذي يتقنها عربي، والأمريكي الذي يحسنها عربي، إنما العربية اللسان.