- اسم الكاتب:حسن بن محمد شبالة
- التصنيف:دراسات في الدعوة
في الجزء الأول من هذا الموضوع عرض الكاتب لمفهوم التجديد، وشروطه، وشروط المجدد، ثم تحدث عن المعنى الأول للتجديد وهو المعنى المقبول والذي قال عنه: "فالتجديد في الاصطلاح الشرعي: هو "إعادة رونق الدين وجماله وصفائه، وإحياء ما اندرس منه، ونشره بين الناس". فهذه ثلاثة محاور للتجديد الشرعي المضبوط المستحب".
ثم هو يتعرض في هذا الجزء من المقال للمعنى الآخر من التجديد والذي هو مقصود المغرضين حيث قال: "أما التجديد بالمفهوم الآخر: فمعناه الانقضاض على أصول الدين وثوابته وكلياته، وهدمها وبناؤها بناء جديدا، بنفسية المهزوم". فقال:
وفيما الأمة محتاجة إلى مجددين في سائر الجوانب، ظهر أصحاب المفهوم الثاني للتجديد -غير المنضبط، الذين ينعق به مجموعة من المهزومين فكريا وعقديا وسياسيا- بمجموعة من الأطروحات المعاصرة في حين اشتد الضغط الغربي والعولمة الثقافية على العالم الإسلامي، وانطلقوا بمجموعة من الشعارات البراقة دعمت دعما قويا من منظمات عالمية مشبوهة، والغريب أن بعضهم قد يكون اشتراكيا أو مستشرقا أو باطنيا أو غير ذلك من المذاهب الهدامة، ثم هو يتحدث عن التجديد الإسلامي!! ويتساءل: لماذا لا نعيد التجديد؟ ألا يوجد تجديد في هذه الأمة؟
وهذه كلمة حق يراد بها باطل، لأنهم ينطلقون من منطلقات سيئة ذات أفكار قديمة يقيسون الإسلام بها على النصرانية، ويقولون: لم تفلح أوروبا ولم تصبح حضارة وتنطلق إلى التكنولوجيا والعلم والتقدم الحضاري إلا حينما جددت أفكارها وتصوراتها. فما هو التجديد عند الأوروبيين والغرب؟ قالوا: أزاحوا الكنيسة والدين والأفكار القديمة البالية وأتوا بأفكار جديدة، مستنيرة انطلقوا بها، فركنوا الدين جانبا!.
وهذا ظلم للإسلام، فالإسلام ليس كالنصرانية والديانات الوضعية، الإسلام دين رباني صالح لكل زمان ومكان، لا يقف أمام العلم والتقدم التكنولوجي بل يدعمه ويشجعه ويدل عليه، وهل استفادت أوروبا في عصور الظلام إلا من المسلمين؟ وهل وقف الإسلام في يوم من الأيام أمام الاختراعات العلمية والإبداعات الحضارية إذا كانت منضبطة مع الشرع؟ لكنه الانهزام النفسي!
لذلك انطلقت مجموعة تطلب التجديد في باب "أصول الفقه"، و"أصول الفقه" قواعد كلية كتبها العلماء منذ 14 قرنا ضبطوا بها منهج الفقه والنظر والاستدلال، في العبادة والمعاملات والأخلاق! ويقولون: ما الداعي لهذه القواعد والضوابط؟ لماذا لا يكون إعادة التجديد في أصول الفقه ضمن المعطيات المعاصرة، ويقصدون بذلك الانهزام والتبعية للعولمة الثقافية وسيطرة الغرب.
وجاء آخرون دعوا إلى تجديد أصول التفسير، وآخرون إلى تجديد أصول الحكم والسياسة. ولعل القراء الكرام اطلعوا على كتاب "الحكم الإسلامي" لعلي عبد الرازق الذي كان يوما ما من أساطين اليساريين، ثم تحول إلى أن يكون مفكرا إسلاميا يقدم للأمة الإسلامية نظرية جديدة في الحكم والسياسة!!
وقد كان لدعوى التجديد في باب الحكم والسياسة أكبر الأثر على حياة الأمة وواقعها، فإذا نظرت إلى الدساتير المعتمدة اليوم لدى كثير من الدول الإسلامية وجدتها تنص في فحواها على أن القرآن والسنة ليس لهما الصبغة القانونية، وذلك تجديدا للأحكام بما يلائم العصر، والمقصود به إبعاد النصوص والأحكام الشرعية وحكم الله - تعالى -عن التأثير في الحياة، وإعطاء السلطة والحكم لمشرعين بشر ينسون ويجهلون ويقصرون ويخطئون! كل حين! ولأن هذه الدساتير وتلك القوانين من خزعبلات أفكار المشرعين من الشعوب تتبدل وتتغير بين الحين والأخرى، فتجد تعديل الدستور والقوانين عادة متبعة وسنة لا ثبات لها! لأن المشرعين بطبيعتهم بشر يشرعون على وفق معلوماتهم القاصرة ونظراتهم الضيقة!
وعلى ذلك انطلق هؤلاء تحت مسوغ أن كل قديم فهو رجعي يجب إزالته، وأنه لا قداسة للتراث، والعجب أن الذي يتابع واقع الثقافة لهؤلاء يجد أنهم كاذبون يكيلون بمكيالين، فعندما يمس الأمر الدين يكون القديم رجعي وتجب إزالته، ثم نجدهم أثناء التطبيق العملي، يبحثون عن شيء أقدم من القديم: فتراهم يستشهدون بالديانات والحضارات الجاهلية قبل الإسلام؟ ويؤلفون في الفرعونية والسبئية والآشورية!! وينشئون لها المنظمات، ويخصصون لها الأقسام الدراسية والبحثية!! وتقدم كنموذج لما يسمونه بالتراث وثقافة ما قبل التاريخ!! داعين إلى استخراج الكنوز منها والحفاظ على مخلفاتها!! وعدم المساس بهذه الثروات الإنسانية!
وقد طالت صرخات التجديد الثقافة والأدب، فما هو التجديد الثقافي والأدبي لدى هؤلاء؟ إنه إبعاد التأصيل والقواعد والخيانة العلمية وتحويل القضايا الأصيلة إلى قضايا مهزوزة، حتى الشعر العربي لم يسلم منها، فنشأ ما عرف بالحداثة والتجديد في الشعر، وكان مبتدؤها الشعر الحر الذي ليس له قافية ولا وزن من أوزان الشعر المعروفة، ثم لم يلبث أن دخلت عليه رموز وطلاسم يقصد بها إهانة المقدسات وهدم الثوابت!
وطالت صرخات التجديد تجديد العقل المسلم وتشكيله بعيدا عن الهدى الرباني، فهم لا يريدون شيئا صحيحا يبقى في عقول المسلمين، يريدون تغيير الموازين والمقاييس والتصورات، حتى تصبح هذه العقول تائهة وغير قادرة على الفهم والإدراك طالما تستند إلى الظنون!!
ومن التجديد المطروح أيضا الدعوة إلى إعادة قراءة التاريخ الإسلامي من جديد؛ والمناداة بضرورة صياغته من جديد؟ في ضوء المعارف اليقينية، ودون اعتماد الروايات والأخذ بدراسة الأسانيد، ويتساءلون: لماذا نعتمد على تاريخ الطبري؟ مثلا، لماذا نعتمد على تاريخ ابن الجوزي؟ أو تاريخ ابن كثير؟ أو على التواريخ القديمة لعلماء السلف - رحمهم الله تعالى أجمعين -؟ فربما ألف هذه التواريخ أناس كانت لهم مصالح مادية أو ميول سياسية أو مذهبية أو.. الخ؟!
وهذا طعن في مدونات التاريخ الإسلامي، التي حفظت وحفظت، وإذا كنا لن نعتمد على التاريخ الإسلامي المسطر بالرواية المدونة في القرن الثاني والثالث الهجري -مثلا- فهل سندون تاريخ الـ 14 قرنا الماضية بمعلومة سطحية ونظريات لم تثبت صحتها وإن ثبتت فقد يكون سير التاريخ بخلافها!!
ثم هم رغم هذه الدعاوى إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وفق مصادر سليمة ونظريات منهجية، لا يتناولون في التاريخ إلا جوانب الخلاف بين المسلمين؛ مثلهم كمثل الذباب لا يقع إلا على الجرح! ليس هذا فحسب بل و يعتمدون في دراساتهم وبحوثهم للتاريخ الإسلامي على كتب لم يعتمدها علماء الإسلام ولم يوثقوا مؤلفها، ككتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وهو كتاب حذر منه علماء المسلمين قديما وحديثا! لما فيه من الدس والكذب! وفيما يتركون أيضا المصادر الأصلية والشرعية للتاريخ الإسلامي يعتمدون على ما يكتبه المستشرقون اليوم!! قائلين للناس: هذا تاريخكم المليء بالانحرافات نحتاج إلى تجديده وتطويره؟!
إنهم لا يبرزون الشخصيات الإسلامية المجددة التي نفع الله بها الإسلام والمسلمين، لكنهم ينشغلون بإبراز شخصيات مقدوحة في التاريخ كـ: واصل بن عطاء، والجعد بن درهم، وعبد الله بن سبأ، والأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، ويقدمونهم على أنهم ثوار ومجددون!
إذا فهذه المصطلحات والشعارات التضليلية تنطلق للإفساد تحت مسمى التجديد، وهناك نقطة مهمة ينطلق منها هؤلاء الذين يريدون التجديد، إنها قضية "لماذا يحتكر أناس مخصوصون فهم الإسلام دون بقية المسلمين؟ "
ومن المعلوم عند المسلمين بأنه لا يوجد لدينا في الإسلام رجال دين ولا كهنوت، هذا كلام صحيح، لكن يوجد عندنا علماء وعوام، وإلا فما معنى قول الله - تعالى -: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، وهذا طبيعي في أي علم وثقافة أن يكون فيها مختصون بها يعلمون دقائقها وتفاصيلها.
لكن هؤلاء بهذا المنطلق يريدون أن يصبح الإسلام خصب المرتع لكل من أراد أن يتكلم فيه، بمعنى أنهم لا يريدون التخصص في الإسلام ما دام أننا مسلمون جميعا؛ دعونا نتصدر للفتوى والتعليم، ونتخصص في البحث والمناظرة، بدون سابق تعلم أو دراسة أو خبرة أو شهادة، وكأن الإسلام مرتع يتصدر فيه من شاء!
إن الأمة الآن مع المدنية والتقدم انطلقت فيما يسمى بالتخصص الجزئي حتى على مستوى قضايا عادية، الطب توزع إلى عشرات من التخصصات، واللغة تفرعت إلى تخصصات، والآداب، والعلوم الإنسانية! فلماذا يؤمنون بالتخصص في العلوم الطبيعية والإنسانية؟ ولا يؤمنوا بالتخصص في العلوم الشرعية؟! فيصبح الجاهل والعالم عندهم سواء! كل من أراد أن يتحدث باسم الإسلام يتحدث!
إنهم يطالبون علماء الشريعة باحترام التخصص، فيما يبيحون لأنفسهم أقدس التخصصات!! انظروا إلى الملفات التي تنتشر في الصحف الثقافية، تحت هذا المنطلق: الخباز والبقال والمهندس والمكانيك والطبيب يتكلم في الفتوى، كل من هب ودب مستعد أن يفتي في الإسلام، هذا حلال وهذا حرام!! هذا جائز وهذا غير جائز!! إن هذا والشرك سواء: {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا * وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} الآية.
وإذا رد عليهم، قالوا: تحتكرون الإسلام عليكم فقط!
إن القضية هي بذل الجهد والوقت في تعلم الإسلام ودراسته على يد من تلقوه تعلما وعملا، ثم الباب مفتوح لمن أراد أن يفتي ويعلم ويعظ ويوجه ويرشد ويؤلف، أما يعلم هؤلاء بأن الإسلام سمح بالتعلم، لكنه لم يسمح بالقول والفتيا بغير علم!
إن الهجمة الشرسة من هؤلاء الذين يدعون التجديد على علماء الإسلام إنما هي هجمة على عقيدة الإسلام. لماذا لا يهجمون على التخصصات الطبية؟ والهندسية؟ والفلكية؟
إن القضية خطيرة وهي تنطلق في أوساط المسلمين، من قوم يتكلمون بألسنتنا، ومن بني جلدتنا، لكنهم عملاء وأذناب للأفكار المنحرفة وللغرب المادي الملحد، إنهم يريدون أن ننحرف كما انحرف الغرب في أخلاقه وسياسته واقتصاده واجتماعياته وأسره وأفراده، يريدون أن تنحرف الأمة تحت مسمى الإبداع والتجديد حتى يغرر بها ويسهل قيادها!..