يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت!

0 1480

في حديث القرآن الكريم عن المنافقين واليهود نقرأ قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} (النساء:60) وقفتنا في هذه السطور مع سبب نزول هذه الآية.

ذكر المفسرون عددا من الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية، نستعرضها تاليا:

الرواية الأولى: روى الطبراني في "المعجم الكبير"، وابن أبي حاتم في "تفسيره"، والواحدي في "أسباب النزول" عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان أبو بردة الأسلمي كاهنا، يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه، فتنافر إليه -أي: تخاصم- أناس من أسلم؛ فأنزل الله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون} الآية. وفي رواية: فتنافر إليه ناس من المشركين. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": "رجال الطبراني رجال الصحيح". وصححه السيوطي في "الدر المنثور"، و"لباب النقول".

الرواية الثانية: روى إسحاق بن راهويه في "تفسيره"، والطبري عن الشعبي في هذه الآية: {ألم تر إلى الذين يزعمون} قال: كان بين رجل من اليهود، ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو اليهودي إلى اليهود؛ لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين؛ لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: {ويسلموا تسليما} (النساء:65) قال ابن حجر في "الفتح": إسناده صحيح.

وفي رواية: فأنزل الله: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك} يعني المنافقين، {وما أنزل من قبلك} يعني اليهود، {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} يعني الكاهن، {وقد أمروا أن يكفروا به} أمر هذا في كتابه، وهذا في كتابه أن يكفروا بالكاهن.

الرواية الثالثة: روى الطبري عن السدي، قال: كان ناس من اليهود قد أسلموا، ونافق بعضهم، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل الرجل من بني النضير، قتلته قريظة، قتلوا به منهم، فإذا قتل الرجل من بني قريظة، قتلته بنو النضير، أعطوا ديته ستين وسقا من تمر، فلما أسلم ناس من بني قريظة والنضير، قتل رجل من بني النضير رجلا من بني قريظة، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النضيري: يا رسول الله! إنما كنا نعطيهم في الجاهلية الدية، فنحن نعطيهم اليوم ذاك. فقالت قريظة: لا، ولكن إخوانكم في النسب والدين، ودماؤنا مثل دمائكم، ولكنكم كنتم تغلبوننا في الجاهلية، فقد جاء الله بالإسلام، فأنزل الله يعيرهم بما فعلوا، فقال: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (المائدة:54) فعيرهم، ثم ذكر قول النضيري إلى أن قال: فتفاخرت قريظة والنضير، قالت كل فرقة: نحن أكرم منكم، ودخلوا المدينة إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي، فقال المنافق من قريظة والنضير: انطلقوا إلى أبي بردة ينفر بيننا، وقال المسلمون: لا بل ينفر بيننا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي بردة فسألوه، فقال: أعظموا الخطر، فقالوا: لك عشرة أوساق، فقال: لا بل مائة وسق ديتي، فإني أخاف أن أنفر النضير، فتقتلني قريظة، أو أنفر قريظة، فتقتلني النضير، فأبوا أن يعطوه فوق العشرة أوساق، وأبى أن يحكم بينهم، وأنزل الله: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت}. (يقال: نفر الحاكم أحد المتخاصمين على صاحبه تنفيرا: أي قضى عليه بالغلبة. وهو من المنافرة؛ وذلك أن يتفاخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يحكما بينهما رجلا، يغلب أحدهما على الآخر).

الرواية الرابعة: روى الواحدي في "أسباب النزول"، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزلت في رجل من المنافقين، يقال له: بشر، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف -وهو الذي سماه الله تعالى الطاغوت- فأبى اليهودي إلا أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المنافق ذلك "أتى معه" النبي صلى الله عليه وسلم، واختصما إليه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي، فلما خرجا من عنده، لزمه المنافق، وقال: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إلى عمر، فقال اليهودي: اختصمت أنا وهذا إلى محمد، فقضى لي عليه، فلم يرض بقضائه، وزعم أنه مخاصم إليك، وتعلق بي، فجئت معه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ فقال: نعم، فقال لهما: رويدكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر البيت، وأخذ السيف، فاشتمل عليه، ثم خرج إليهما، فضرب به المنافق، حتى برد -أي مات-، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهرب اليهودي، ونزلت هذه الآية، وقال جبريل عليه السلام: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمي الفاروق.

قال الحافظ في "الفتح": "هذا الإسناد وإن كان ضعيفا، لكن تقوى بطريق مجاهد، ولا يضره الاختلاف لإمكان التعدد".

هذه الروايات الواردة في سبب نزول الآية، وإن اختلفت ألفاظها، غير أن مضمونها واحد، ومجموعها يفيد أن المنافقين كانوا لا يرضون بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسعون للتحاكم عند من يقبل منهم رشوة، ابتغاء الانصاع إلى رغباتهم وشهواتهم. وهذا شأن المنافقين في كل عصر وفي كل مصر، لا يقبلون بحكم الله ورسوله، ولا يقبلون إلا بحكم من يسير في ركابهم، ويوافق مصالحهم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة