ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً

0 1377

بالرغم من أن إنسان هذا العصر غارق في لجج المدنية المعاصرة، ومنتجاتها التقنية والاتصالية، بيد أن المؤمن تعتريه لحظات مفاجئة بين الفينة والأخرى، تنتشله من هذا الزخم التقني والاتصالي، فيخرج من مدارات التفاصيل الصغيرة، ويستعيد وعيه بالحقائق الكبرى.

لحظة الصدمة تقع دوما حين يستشعر المؤمن لحظة لقاء الله، وقرب هذه اللحظة. وقد أشار القرآن الكريم إلى مفارقة مؤلمة، وهي شدة قرب لقاء الله، مع كون الإنسان يغفل كثيرا عن هذه الحقيقة، لقاء الله قريب غير بعيد، وما زلنا غافلين، قال تعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} (الأنبياء:1).

والقرآن الكريم أخبر عن المعاد بطرق كثيرة ومتنوعة جدا، وهذه الكثرة والتنوع من الآيات التي تربط العقل المسلم باليوم الآخر ليست عبثا، ولكنها لأغراض لا تخفى على المهتم بمغزى كلام الله، والمعني بمقاصد القرآن، ورسائله الضمنية.

وثمة آيات تحدثت عن اليوم الآخر، وصورت الناس بصور شتى، تكشف عن حالهم، من ذلك:

- آيات صورت مشاعر المقصرين في ذلك اليوم، منها قوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء} (إبراهيم:42-43) انظر كيف سيقوم الناس من قبورهم، شاخصة أبصارهم، مسرعين، ومقنعي رؤوسنا، تنظر شدة الأهوال، ومن شدة التحديق بحيث لا تطرف العين، وصف القرآن هذه الحالة بأنهم {لا يرتد إليهم طرفهم} ومن شدة الفزع والرعب وصف الله القلوب بأنها فارغة من كل شيء، {وأفئدتهم هواء} فهي في حالة تنسي الدنيا بكل ما فيها، وتنظر فيما هي مقدمة إليه من الحساب والعذاب.

- ومن التصويرات القرآنية المخيفة لتلك اللحظات، تصوير لحظة الانكسار والذل والضعة التي تعتري المقصر، يقول تعالى: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون} (السجدة:12). ووصف سبحانه الخجل والذل في ذلك اليوم وصفا آخر، يجعل الإنسان ينظر مسارقة، قال تعالى: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} (الشورى:45) والإنسان الذليل الخائف يسود وجهه، وتعلوه القتامة، حتى كأن الليل البهيم يعلو محياه، قال عز وجل: {كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما} (يونس:27).

- ومن الصور القرآنية التي تنخلع لها القلوب صورة الجثو على الركب في ذلك اليوم، فترى الناس مستوفزين لا يصيب الأرض منهم إلا ركبهم وأطراف أقدامهم، قال سبحانه: {وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية:28-29).

- ومن الصور القرآنية التي تصور حال القلوب الفزعة في ذلك اليوم، ما جاء في قوله سبحانه: {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين} (غافر:18) فالقلوب يومئذ من شدة الهول تخفق كأنما تصعد للحنجرة مع الصمت المطبق.

- والأمر المهم في هذه الصور القرآنية أننا نعلم أن هذه الأحوال والأهوال التي وصفها سبحانه لنا، لا يفصل بيننا وبينها إلا مجيء ملك الموت في الساعة المقدرة اليوم أو غدا، ومع ذلك لا زالت الغفلة تكبلنا، وتشدنا إلى هذه الحياة الفانية؛ ففي ستة مواضع من القرآن الكريم وصف سبحانه ذلك اليوم بأنه يأتي {بغتة} أي: يأتي بشكل مفاجئ، والناس في غفلة تامة، قال سبحانه: {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها} (الأنعام:31)، وقال سبحانه: {لا تأتيكم إلا بغتة} (الأعراف:187)، وقال عز وجل: {أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة} (يوسف:107)، وقال عز من قائل: {ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة} (الحج:55). وقال سبحانه: {هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون} (الزخرف:66). وقال تعالى: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها} (محمد:18).

- واللافت في الأمر أن العلماء يؤكدون أن القرآن الكريم أكثر من ذكر اليوم الآخر بما لا يوجد مثله في الكتاب السماوية السابقة، يقول ابن تيمية: "وفي القرآن من ذكر المعاد وتفصيله، وصفة الجنة والنار، والنعيم والعذاب، ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل".

- وقد تمدح سبحانه بتعظيم نفسه بإلقاء الوحي على الرسل؛ لكي ينبهوا الناس إلى اليوم الآخر، فجعل سبحانه من أعظم وظائف الوحي تذكير الناس بقرب لحظة لقاء الله، قال عز من قائل: {رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق} (غافر:15) وإنه لأمر محرج أن يوضح سبحانه لنا أن من أغراض الوحي تنبيه الناس على لقائه، ونحن غافلون عن هذه الغاية القرآنية العظيمة.

هل نحن حين نتلو القرآن الكريم نستحضر أن من مقاصد القرآن الكريم تعميق استحضار اليوم الآخر في النفوس؟ هل منحنا الآيات التي تصور مشاهد اليوم الآخر منزلتها التي تستحقها؟

حين ننشغل بأمر الدنيا -وما أكثر مشاغلها ومفاتنها- ونغفل عن هذا اليوم القادم، فنحن لا نغفل عن يوم عادي، أو يوم مهم فحسب، إننا نغفل عن يوم وصفه سبحانه بقوله: {إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} (الإنسان:27).

هذا الإطراق، وخشوع الأبصار، وتنكيس الرؤوس، وفراغ القلوب من الرعب، والجثو على الركب في ذلك اليوم العصيب، إنما سببه هول العذاب، والخجل من سيء الأعمال. ولكن ثمة أمر آخر أعظم من ذلك كله، وهو جلال وهيبة الله سبحانه؛ إذ يتجلى ذلك اليوم لعباده، قال تعالى: {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا} (طه:108) وقال سبحانه: {وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما} (طه:111) ومعنى {عنت} أي: خضعت، وذلت، واستسلمت.

كلما استطاع المسلم التخلص من الضباب الكثيف الذي يصنعه الانهماك في الدنيا، ومنح نفسه ساعة تأمل في لحظة صفاء، وتذكر قرب لقاء الله، فإنه سيتفاجأ بحيوية جديدة تدب في نفسه، سيشعر كأنما قام قلبه باستحمام إيماني، يزيل عنه العوالق والأوضار، وستتغير نظرته لكثير من الأمور.

ومن أهم ما يصنعه استحضار ذلك اليوم في النفوس الزهد في الفضول، فضول النظر، وفضول السماع، وفضول الكلام، وفضول الخلطة، وفضول النوم، وفضول تصفح الإنترنيت، وفضول الجوالات، ونحوها، فيصبح المرء لا ينفق نظره وسمعه ووقته إلا بحسب الحاجة، ووفق ما يرضي الله سبحانه.

ومما يصنعه استحضار ذلك اليوم في النفوس الإقبال على القرآن الكريم، فيعيد المسلم صياغة شخصيته الفكرية على ضوء القرآن الكريم؛ لأن الله في ذلك اليوم العصيب القادم سيحاسبنا على ضوء هذا القرآن، قال عز من قائل: {وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا} (طه:99-100). وقال سبحانه: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين * فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون} (القصص:65-66) وإن من الخسارة بمكان أن يبني المسلم شخصيته من كتب فكرية منحرفة.

ومما يصنعه استحضار ذلك اليوم في النفوس إقبال المرء على نفع إخوانه المسلمين في دينهم ودنياهم؛ بتعلميهم معاني كلام الله ورسوله، وتعليمهم ما تقوم به أمور حياتهم؛ فمن استحضر ثقل ذلك اليوم، هل يستطيع أن يتجاهل دماء إخوانه النازفة في كثير من بلدان المسلمين؟ هل يستطيع أن ينسى مسؤوليته أمام الله، وهو يتذكر صور الأشلاء المتناثرة هنا وهناك، واستغاثات الثكالى والأيامى، وأنين الأطفال والرضع في كثير من بلدان المسلمين؟

ومما يصنعه استحضار ذلك اليوم الاستخفاف بالجاه في عيون الخلق، والتعلق بالجاه عند الله جلا وعلا، وماذا يغني عنك ثناء الناس، وأنت تعرف من خطاياك ما لو علموه لما صافحوك؟

من وضع بين عينيه عظمة ذلك اليوم، والمنزلة عند الله، وكيف ستبدل الآخرة من منازل الناس بشكل انقلابي، كما قال تعالى: {خافضة رافعة} (الواقعة:3) من استحضر ذلك كله، علم رخص الشهرة، والظهور والرياسة، وكسد سوقها في قلبه، وأيقن أنها أهداف في غاية التفاهة؛ بحيث لا تستحق دقيقة جهد، فضلا عن أن يذهب عناء السنين في العلم والعمل وجمع الكتب وعناء الليالي لأجل مديح الناس!

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة