التربية الناجحة.. ولزوم التخطيط

0 1293

رأى المفضل بن زيد ابنا لأعرابية مسلمة، فأعجب بمنظره، فسألها عنه، فقالت: "إذا أتم خمس سنوات أسلمته إلى المؤدب، فحفظ القرآن فتلاه، فعلمه الشعر فرواه، ورغب في مفاخرة قومه، وطلب مآثر آبائه وأجداده، فلما بلغ الحلم حملته على أعناق الخيل فتمرس وتفرس، ولبس السلاح، ومشى بين بيوت الحي، وأصغى إلى صوت الصارخ".

أعزائي المربين والمربيات:
إننا أمام نموذج فريد للتخطيط والإعداد من أجل تربية ولد صالح، فلا نستطيع أن نفسر طريقة هذه المرأة الأعرابية إلا بأنها كانت تخطط لتربية ولدها منذ ولادته، وتنفذ ما خططت له المرحلة تلو الأخرى، فهي تعرف ماذا تفعل، وإلى أين تسير!

إن التربية عملية تطوير مستمرة، وليست بالعمل الذي نعتمد فيه على ما علق في أذهاننا من تربية والدينا لنا، أو بما يرشدنا إليه الأصدقاء والأقرباء، بل تستلزم منا الشعور العميق بالمسؤولية وثقلها، وبضرورة الإعداد والتدريب لها، ومعرفة عديد من قواعد وأصول التربية السليمة، والتسلح بمهارات التربية الصحيحة.. نعم، إن الأمر يستلزم في كثير من الأحيان تعديل سلوك الوالدين والمربين أنفسهم، وتطوير أدائهم التربوي، ومن دون هذه النظرة الجادة للتربية سنخرج جيلا عشوائيا تماما مثل التربية العشوائية التي تلقاها.

أصناف المربين
هل تعتمد الأسرة في مجتمعاتنا العربية التخطيط لتربية أبنائها؟
المربون ثلاثة أصناف: صنف يخطط للمستقبل، وصنف لا يخطط للمستقبل مسبقا بل يكون مع التيار يبادرون إلى حل المشكلة بعد أن تقع، مرتجلين الحلول كيفما اتفق لهم، وصنف غير مبال لا يلتفتون لقضية التربية الجادة، فإذا قابلتهم المشاكل يهملونها ويتركون الحل للزمن مهما كانت النتائج!

والأسرة العربية بشكل عام انفعالية في تربية أبنائها، وقلما تتابع الأسرة الإشراف على تربية أبنائها وفق خطة هادفة محكمة، ولعل الخطأ الأكثر شيوعا على الإطلاق هو عشوائية التربية، وعدم اتخاذ العلم والتدريب طريقا لتحسين أداء الوالدين فيها؛ لذلك نرى الكثير من أوجه القصور في التربية يقف سببا وراء ما نراه من عيوب وعلل مثل: عدم متابعة الأبناء في دراستهم، وتأدية واجباتهم، أو التعاون مع المدرسة لرفع مستواهم العلمي والتربوي، أو التركيز على تعديل سلوكياتهم في المنزل، وتصحيح أخطائهم بشكل منتظم وهادف أولا بأول، فهذا هو الأسلوب الارتجالي في التربية أو ما نطلق عليه عشوائية التربية.

التخطيط لماذا؟
لماذا علينا أن نخطط لتربية أبنائنا؟
تكون الأعمال ناجحة ومتقنة إذا سارت وفق خطة مدروسة، وأهداف واضحة المعالم تسعى لتحقيقها، وإنشاء الأسرة من دون تخطيط سيكون مآله الفشل أو التخبط والعشوائية؛ لذلك لا بد لكل عمل ذي شأن من خطة توضع في بداياته حتى تكون نتائجه طيبة، فكلمة التخطيط تعني: العمل من أجل المستقبل.

القرآن والتخطيط لتربية الأبناء:
التخطيط فيما يخص الأبناء ليس بجديد على المسلمين، إنما الجديد أننا ندعو إلى العمل به، وتطبيقه مجددا، فقد ورد في القرآن الكريم مفصلا نماذج من تخطيط الأنبياء والصالحين لحياة أبنائهم، فإبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - يخطط بالدعاء والتضرع لله رب العالمين من أجل ذريته بشكل يمتد في الآفاق الرحبة للزمن القادم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إذ يدعو دائما بلفظ “ذريتي” ولا يقصر الدعاء على “ولدي”، قال: {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء}[إبراهيم:40]، وقال تعالى عن امرأة عمران: {إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم}[آل عمران:35].

ولأن الآباء والأمهات قلقون دائما على مستقبل الأبناء من بعدهم، ويداخلهم الإحساس بالخوف الشديد عليهم إن هم ماتوا وأبناؤهم لا يزالون صغارا لا يقومون بأمر أنفسهم؛ فيأتي التوجيه القرآني العظيم ليزيل هذه المخاوف، ويعلم الآباء والأمهات أن الخطة الوقائية التي تؤمن مستقبل الأبناء إذا ماتوا وتركوهم صغارا هي: (تقوى الله + سداد القول)! قال سبحانه: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا}[النساء:9].

توجيهات نبوية تربوية:
يتضح ذلك جليا في حديث: [مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع]. هذا الحديث فيه دليل دامغ على أن التربية القويمة التي تؤدي إلى تنشئة الإنسان الصالح لا بد أن تقوم على التخطيط والمتابعة، ووضع البرنامج الزمني، بعيدا عن العشوائية والارتجالية، كما يؤكد هذا الحديث العظيم حقائق تربوية وإدارية لم يتوصل إليها العلماء إلا حديثا مثل: أن فترة ثلاث سنوات تعد فترة كافية لإحداث البرمجة الإيجابية.. ثلاث سنوات تعني (5310) صلوات مرت على الطفل، و(5310) أوقات انتظم فيها الطفل، وهذا العدد من التكرار يعد كافيا بشكل كبير لبرمجة الطفل على إقامة الصلاة اعتقادا وممارسة وإدارة للوقت نظاما وانتظاما، وأي طفل خضع لهذا العدد الهائل من التكرار غالبا يثبت على أدائها طوال حياته.

كيف نخطط لتربية أبنائنا؟
• علينا أولا أن نخلص النية لله - سبحانه وتعالى -، ونستحضر الهدف الكبير الواضح في تربيتنا لأبنائنا (إنجاب الذرية المؤمنة التي توحد الله - تعالى -، وتنهض بنفسها وأمتها)، ولنا في امرأة عمران أسوة حسنة، قال - تعالى - عنها: {إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم}[آل عمران:35]، ومن ثم نعمل حواسنا وأذهاننا في التخطيط للوصول إلى هذا الهدف.

• الإسلام يوجهنا إلى التخطيط المبكر منذ التفكير في الزواج، عندما يأمر ويؤكد ضرورة اختيار الزوج الصالح ذي الخلق والدين: [إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه]، وكذلك اختيار الزوجة الصالحة ذات الخلق والدين: [فاظفر بذات الدين تربت يداك]، واختيار الشخص الصالح الذي سيقوم على تربية الأبناء، ويمثل لهم القدوة، أهم خطوات التخطيط السليم الذي نعنيه.

• يتشرب الطفل عن طريق القدوة، ومن خلال الحديث اليومي المستمر مع والديه، ما يبني الجانب القيمي، والسلوكي، والأخلاقي لديه؛ لذلك اجعل هدفك الكبير لا يغيب عن مخيلتك أبدا، ووظف كل دقيقة في نشاط مشترك، أو حوار مع أبنائك تقربك منهم، فهذا هو الفارق بين حالة الهدف وحالة اللا هدف.

• وأثناء ذلك ضع أهدافا قصيرة المدى (مرحلية) محددة المدة مثل: (تحفيظ طفلك 8 سنوات؛ الأربعين النووية خلال إجازة الصيف بمعدل 10 أحاديث في الشهر تقريبا)، والمهم في الأهداف المرحلية أن تكون واضحة بكل تفاصيلها، ومحددة زمنيا، حتى يتسنى لنا متابعة وقياس مدى تنفيذها في الواقع.

• اكتشف قدرات ابنك مبكرا، وتعرف على طموحاته وأحلامه من أجل توجيهها وتنميتها، ولقد أكد مختصون في علم النفس التربوي أن كل الأطفال لديهم أحلام وتطلعات يعبرون عنها، سواء بالكلام، أو السؤال، أو الاهتمام بالقصص التي يصرون على سماعها والعودة إليها مرة أخرى، أو حتى من خلال اللعب الذي يرغبون ممارسته معظم الوقت.

• اكتب ودون، فالكتابة والتدوين مما يعين المربي على جعل خطته التربوية قيد التنفيذ، فمثلا يمكن أن نسجل الأهداف طويلة المدى على هيئة أسئلة وإجابات، هكذا:

1- ما الصفات النفسية والعقلية والخلقية التي أتمنى أن يتحلى بها أبنائي؟ (الصبر، الرحمة، التعاون، الثقة بالنفس، المثابرة).

2- ما أهم المهارات التي أود أن أزودهم بها؟ (النظام، القراءة، تحسين الخط، التخطيط).

3- ما نوعية التعليم الذي أتمناه لهم؟ (أن يكون شاملا للجانب الديني، المناهج الدراسية، الثقافة والمعارف العامة، جانب المهارات).

• احرص على الاستفادة القصوى من الوقت في تربية أبنائك: فمثلا وقت تناول الطعام يمكن أن يكون هو نفسه وقت مراجعة القرآن الكريم مع المسجل أو الكمبيوتر في يوم التسميع، وكذلك الوقت الذي تقوم فيه الأم بتنظيف المنزل يمكن أن يكون هو نفسه وقت تدريب الطفل على استخدام المكنسة الكهربائية، أو تلميع الأثاث، كذلك وقت الطهي وقت مناسب لإشراك الطفل وتعريفه بعدد من الأشياء كأنواع الخضار، وألوانها، وفوائدها، ومدى التشابه والاختلاف بينها، وربطه إيمانيا بالله - تعالى - وقدرته ونعمه الكبيرة علينا، وأنه هو الذي وهب لنا هذه الخضار والفاكهة.

• لاحظ وتابع، فالملاحظة الدقيقة، والمتابعة الجيدة؛ من أهم عوامل نجاح تنفيذ الخطط على أرض الواقع، وتحقيق الأهداف، ولا يستطيع المربي ذلك إلا بالصبر، والنفس الطويل، وأن يلغي من قاموسه كلمات قصيري الأنفاس مثل: "لقد تعبت وضجرت من الأبناء وتربية الأبناء، لم أكن أحسب أن الأمر بهذه الصعوبة، إلى متى سأظل أربي؟ متى يتخرج الأبناء وأرتاح منهم؟"، وليتذكر قول الله - تعالى -: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}[طه:132].

وأخيرا عزيزي المربي:
إن تربية الأبناء وتعهدهم هو الخطوة الرئيسة، والتحدي المهم؛ الذي يتوقف عليه مستقبل أمتنا المسلمة، خاصة في هذه المرحلة المهمة التي تتجه فيها أمتنا نحو النهوض من جديد، وتستشرف لها البشرية جميعها .. فلنؤديها بإخلاص وأمانة وفق خطة مدروسة، ونهج محدد، وأهداف واضحة لدينا بكل الثقة بالله - تعالى - الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة