- اسم الكاتب:هاني إسماعيل محمد
- التصنيف:تاريخ و حضارة
استوحيت عنوان هذه المقالة من مقولة قالها المفكر الصهيوني: " إليعازر بن يهودا" لإحياء اللغة العبرية، قبل تأسيس الكيان المغتصب في فلسطين، إذ قال: لا حياة لأمة دون لغة، واستطاع بالفعل أن يحول العبرية من لغة دينية تتلى في الطقوس الدينية إلى لغة الدراسة من الحضانة إلى الجامعة، بل استطاع أن يصنع منها لغة الخطاب اليومي والحياة المعيشية.
ليس من باب المبالغة أن نؤكد على أن إحياء العبرية ساهم بشكل مباشر في قيام دولة المغتصب في فلسطين، فاللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير والتخاطب بين الأفراد، بل هي حضارة الأمة وحاضرها، تمثل ثقافته وهويته، والاعتزاز باللغة هو اعتزاز بالأرض والوطن، فاللغة انعكاس مباشر لجذور المرء عبر ذاكرة التاريخ بما فيه من آلام وآمال، انتصارات وانكسارات، ومنها وبها تستمد الشعوب حياة القلوب والعقول.
من هنا كانت مقولة إليعازر بن يهودا “لا حياة لأمة دون لغة” ما كان للكيان المغتصب أو ما يسمى بدولة إسرائيل أن تقوم على شعب ذاب في ثقافات مختلفة شرقية وغربية، وتمزق كل ممزق، وتشرب من عادات وتقاليد الحضارات المتباينة، وتقطع أوصاله في الأمم؛ إلا بإحياء اللغة، التي صنعت لهم حضارة من دون حضارة، وهوية بلا هوية.
وبمفهوم المخالفة إن الأمة التي تفتقد لغتها تفتقد وجودها، وتهدم كيانها، وتطمس تراثها، وتصبح أثرا بعد عين، وهذا يفسر لنا الجهود الحثيثة التي بذلها العدو لتهميش اللغة العربية في مقابل لغته الوافدة، وصدق صادق الرافعي حين قال: “ما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمرها في ذهاب وإدبار، ومن هنا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة التي يستعمرها، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيته، فعليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد، أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا، وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها فأمرهم لأمره تبع”.
هذا يفسر لنا تلك الدعوات المشبوهة التي قام بها رواد الحداثة العربية أو ما يسمون أنفسهم بالتنويريين من أبناء جلدتنا، أمثال: لطفي السيد وسلامة موسى ولويس عوض وغيرهم من اتخاذ العامية لغة للآداب والعلوم، بدلا من العربية الفصحى، وارتباط هذه الدعوات بالنعرات القومية، كالدعوة للفرعونية في مصر والفينيقية في لبنان، والبابلية في العراق... إلخ.
ولله در الأديب صادق الرافعي إذ أنشد دفعا عن اللغة العربية ضد هؤلاء المستغربين فقال:
أم يكيد لها من نسلها العقب ولا نقيصة إلا ما جنى النسب
كانت لهم سببا في كل مكرمة وهم لنكبتها من دهرها سبب
لا عيب في العرب العرباء إن نطقوا بين الأعاجم إلا أنهم عرب
سلوا الكواكب كم جيل تداولها ولم تزل نيرات هذه الشهب
وسائلوا الناس كم في الأرض من لغة قديمة جددت من زهوها الحقب ؟
كما نجد مستشرقا ينصف العربية فيرى فيها أنها المفتاح الوحيد للثقافة، يقول (جورج سارتون) في كتابه (تاريخ العلم والإنسانية الجديدة): “منذ منتصف القرن الثامن وحتى أواخر القرن الحادي عشر كانت الشعوب التي تتكلم العربية تتقدم موكب الإنسانية، وبفضلهم لم تكن العربية لغة القرآن المقدسة وحسب؛ بل أصبحت لغة العلم العالمية وحاملة لواء التقدم البشري”.
والآن بعد الثورات والسعي للخروج من ربقة الاستلاب الثقافي والسعي لإقامة نهضة حقيقية، فإننا نؤكد على أن النهضة الحقيقية تنطلق من النهوض باللغة واستعادة ريادتها في البلدان العربية، وبدون الاهتمام التام باللغة العربية لن تكون هناك نهضة حقيقة.