- اسم الكاتب:هشام بن الزبير-منتدى التوحيد
- التصنيف:تعزيز اليقين
حاورنا زميل ملحد في الغرفة الصوتية للمنتدى، وكان ذا خلق، ثم غاب عنا زمانا ثم عاد ليقص علينا خبره، لقد أقدم على قتل نفسه فأنقذه أهله، ثم جاء ليحكي لنا مأساته، فلم يجد إلا قلوبا رحيمة وألسنة ناصحة مشفقة، ثم جلست إلى نفسي بعدها فكتبت ما ترون، فلعل من كان في مثل حال صاحبنا المتبلى ينتفع بهذه الكلمات.
أيها المتشكك، يا من ينتسب للإلحاد..
طالما سألتك على إلحادك برهانا، فما جئت بغير النفي والإنكار، ونفيك وإنكارك عري عن الدليل فكيف يكون دليلا؟ وكلما ألححت عليك في السؤال أومأت إلى رجال من علماء الطبيعة في الغرب ولسان مقالك: أتحسب هؤلاء جميعهم على باطل وقد أطبقوا على الإلحاد وأجمعوا على أن القوانين الطبيعية تفي بالغرض وتحل ألغاز هذا الكون، وأن لا حاجة لإله. فكنت حينها أجيبك: إنما سألتك عن إلحادك دليلا، ولم أسألك من معك على هذا الأمر؟ فهلا وعيت الفرق.
لقد مضى زمان طويل على محاوراتنا، وأحمد الله أنك عربي اللسان، فلا تقطعنا العجمة عن سماعك وإسماعك.
وهاأنتذا قد وصلت إلى نهاية نفق الإلحاد، لقد عاينت ما كنت أحذرك منه، وما كنت أتخوفه عليك،
هاأنتذا تصبح في يوم من أحلك أيام دهرك، شمسه طالعة لكنك لا تبصر النور، فظلمة قلبك غدت أحلك من ظلمة الليل البهيم، ترى الناس حولك يلغون ويتمتعون وأنت لا تجد للحياة طعما ولا معنى.
هائنتذا تغوص في دوامة سحيقة من اليأس والقنوط، هاهي ذي نفسك تهبط وتنحدر بك كأنما ابتلعها ثقب أسود.
إني أراك تحدق في الأفق وتتذكر حياتك لحظة بلحظة ثم يخيل إليك أنك تسمع صوتا خافتا يهمس في أعماقك، لا تكاد تتبينه أول الأمر، ثم لا يزال يعلو ويرتفع حتى يصير كالهدير، يصرخ بك:
أي قيمة لحياتك، وهل هذه حياة، ففيم البقاء؟ اجعل لهذا نهاية، صدقني الأمر أسهل مما تتصور..
انتحر ترتح، فيم الجزع؟
أوليس الموت خاتمة الخواتيم ونهاية النهايات؟
ألو ليس الموت للنوم رديفا؟ أولا يريحك النوم؟ فلتكن نومة سرمدية لا تفيق منها أبدا.
أراك تقدم على إجابة الداعي أو تكاد، لولا أن صوتا أخر أشد خفوتا وأبعد غورا ينطق في مكان ما من نفسك:
إياك ثم إياك أن تفعل، تدبر الأمر، إياك والعجلة.
دعني أهمس في أذنك كلمات: يا أيها المتشكك، تمعن في هذا الصوت الحكيم وقارنه بذلك الصوت الهادر البغيض، أيهما أقرب إلى نفسك. لا تقل لي إن الداعي الذي يهتف بك لتنسلخ طوعا عن الحياة يوافق المنطق والعقل وأن نداء فطرتك لا يصدر إلا عن عاطفة وغريزة. تأمل جيدا فسترى كم هو بعيد عن العقل من يدعوك في ساعة الشدة إلى النكوص والإدبار. ثم أليس هذا التردد في أعماق نفسك وهذا الإحجام منك دليلا على الشك والحيرة؟
أوليس هذا آخر سبب يربطك بالحياة؟ هذا الخيط الرفيع الذي يمتد من أعماق فطرتك لينقذك من شر نفسك، إنه شاهد على أن الإلحاد لم يخلص لك كما كنت تدعي وتتمنى، إنك لا تزال مذبذبا بين النفي والإثبات، تتساءل في الساعة التي تترقب فيها خروج آخر نفس من أنفاسك باختيارك:
وماذا لو كنت مخطئا؟
ماذا لو كان الحق مع أهل الإيمان؟
حينها يكون إقدامك على الانتحار مفتاحا لعالم الشقاء الأبدي. أوليس صوت الفطرة ينطق بهذا كله؟
هذه الفطرة التي تنطق الآن بصوت خافت من تحت ركام الكفر والمعاصي التي تلبست بها خلال سني شكك وإلحادك، إنها طوق النجاة الأخير، إنها تحمل علما منطبعا في أعماق نفسك، إنها تعظك بلسان لم يقومه معلم ولم يصقله أديب، إنها تفصح بلغة لم يحوها معجم ولا كتاب، إنها فطرة الذي خلقك وصورك إنها فطرة الذي نهاك وأمرك.
رويدك أيها المتشكك، لا تنازع فطرتك هذه المرة، أرخ لها العنان لتخنس ذلك الصوت الكريه الذي يغريك لتخسر أعظم الهبات، هبة الحياة.
دع عقلك يطالع في كتاب فطرتك، فإنه سيهبك مخرجا من النفق المظلم الذي يكاد يرديك، وسيبين لك عوار هذا الهاتف الذي يكاد يغويك.
هل أدركت أنك -في لحظة الإقدام والإحجام على قطع وريدك أو احتساء ما يفتت حشاك وكبدك - تعرف معرفة ضرورية أن هذه الموتة التي تتمناها ليست آخر الرحلة، كل ما هنالك أنها ستنقلك مرحلة، إن فطرتك تحمل إليك هذا العلم الذي لا تعرف له مصدرا ولا تعليلا و تكاد تقبله دون أن تسأله دليلا.
إنها بصيرة أصيلة في نفسك، إنها صوت ضميرك يأمرك وينهاك، وفق نظام دقيق وميزان محكم. فاسمع وع وتدبر الأمر عساك تبصر النور من جديد.
إن فطرتك توحي إليك، أن لا يزال ثمة الكثير مما ينبغي لك تعلمه وإدراكه وفهمه والعمل به. إن العقل الذي أغراك أهل الزيغ والإلحاد باتخاذه صنما يعبد من دون الله، لا يفسر إلا القشرة السطحية لهذه الحياة، لا يريك إلى ما صدقه الحس، فأين الحس مما تحس به الآن في أعماق نفسك المتحيرة؟
أين الحس من هذا الصوت الفطري الذي كنت تحسبه قد انخنس إلى غير رجعة، هاهوذا يهبك الأمل ويعرض عليك فرصة أخرى، فلا تضيعها فتخسر نفسك. إنه باب قد يفضي بك إلى الخروج من هذا القبر المظلم الذي أطبقت عليك أركانه.
هاهوذا عقلك يتفكر في حقيقة ومصدر هذا العلم ويتساءل: إن كان هذا العلم بأن الموتة الأولى ليست المنتهى وأن المنتهى والرجعى إلى موضع آخر، ليس إلى العدم المحض، إن كان هذا العلم موجودا وراسخا في النفس، فمن أين أتى ياترى وأنت تدافعه منذ عقلت؟ أيعقل أن يكون في قرارة نفسي علم ضروري يضرب بجذوره في من دون معلم؟ أأقضي ردحا من عمري في مطالعة كتب التطور والإلحاد ثم أقف عاجزا عن اتخاذ القرار الذي تظافرت القرائن على صوابه؟ من طبع هذه الفكرة في نفسي؟ ولم لم أقدر على محوها ومحقها ؟ لم لا تزال حاضرة تأمرني وتنهاني رغما عن أنفي؟
أحقا ليس ثمة إله؟ أحقا أن ليس فوق إرادة الإنسان إرادة؟
لا أراني إلا كائنا ضعيفا فقيرا عاجزا توهم القوة والغنى والقدرة، لا أراني إلا طفلا توهم الاستغناء عن أمه وأبيه، ما أتعسني بعقلي، وما أغنى عني عقلي؟
أفلا يجدر بك وقد بلغت إلى هذا الموضع الذي تبين لك فيه أن الإلحاد لم يخلص لك ساعة من دهرك وأن كل ما توهمته علما لم يجاوز عتبة الظن. أفلا ترى أن صوت فطرتك في هذا الموقف العصيب أهدى وأرشد وأعلم وأبلغ وأرحم من كل علوم أهل الأرض ممن افتتنت بهم حتى بلغت إلى هذا الحضيض؟
هات يدك وأسلس القياد لفطرتك، أقبل على ما تأمرك به ولا تخف، واعص الهاتف الشيطاني ولا تعجل.
تفكر في أمرك، تذكر الصبا وأنت تعدو وتلهو وتضحك من أعماق قلبك، أنظر إلى الطفل الذي كنته، أتذكر الصفاء والهناء؟
حاول أن تفكر في محنتك هذه بعقل طفل، يبكي ثم يضحك في لحظة، يؤذى فلا يحقد، يضرب فينسى، التمس في تلك السنوات البعيدة سر السعادة، أصخ السمع لصوت فطرتك، إنها الفطرة التي جعلتك تنعم بتلك السنوات الهنيئة، ثم شببت عن الطوق فظننت أنك جسد بلا روح وأن الكون قائم بنفسه، فلم تزل تنحدر وتتردى حتى بلغت ههنا وكدت تردى. راجع فطرتك الساعة بكل صدق وبلا اعتساف: إعرض عليها المسألة من جديد:
أنا مخلوق.. الله خلقني.. هو الذي قدرني ثم صورني.. هو الذي اختار لي صورتي وصوتي وبصمتي.. هو الذي هيأ لي أسباب الحياة.. هو الذي أسبغ علي النعم.. هو الذي طبع فطرتي في أعماقي كفكرة لا فكاك منها.. هو الذي جعلها ميزانا يرجع إليه عقلي.. هو الذي قضى علي الموت حتى يسألني عما قدمت في حياتي وقد أمرني ونهاني..
سيطلع عليك الهاتف البغيض ليسفه كلامك وليرجمك بصواعق التشكيك والاعتراض. قل له: إليك عني، وقد بدا لي من أمرك ما دل على خبث طويتك وقلة نصحك، اليوم سأعصيك وسأنظر هل تعترض نفسي في صورتها الأولى التي نشأت عليها على ما عرضته عليها.
هل رأيت يا صاح، كيف أن ما نطقت به ينزل على فطرتك كما ينزل الغيث على الأرض الظمأى؟ إنك تعرف هذا كله، كل ما هنالك أنك كنت تدافع الحقيقة وتخرس صوت الحق فيك، نعم، دعني أسمعك من الكلام ما به تعود إليك نفسك ويحيا موات قلبك، دعني أسمعك كلام الذي صورك وفطرك، كلام الذي لا تبديل لخلقه:
v قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين } (الزمر:53-56)
{ يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم. الذي خلقك فسواك فعدلك. في أي صورة ما شاء ركبك.} ( الإنفطار:6-8).
أرأيت كيف توافق الكلامان، كلام فطرتك وكلام فاطرك؟ هات يدك لنخرج من هذا النفق المظلم، نفق الشك والإلحاد، فإن ثمة عالما آخر، كانت الغشاوة على ناظري قلبك تمنعك رؤيته، إنه جنة قبل الجنة ونعيم قبل النعيم فهات يدك، واغسل عنك ما مضى بسكب العبرات و بالتوبة إلى رب البريات.
نعم ابك، فلا أعرف لك دواء أنفع من البكاء، إبك كطفل صغير، يعود لأمه مستعطفا معتذرا ويقول: سامحيني أمي، لقد أخطأت فيما فعلت، أعدك ألا أعود لمثل ذلك، فتضمه إليها فيشعر بالدفء والأمان من جديد.
صاح، لقد كاد الشيطان يهوي بك في جهنم، فلتعد إلى مولاك، هل تعلم لك ربا غير الله؟ عبد الله: قل لا إله إلا الله، لا تيأس فإن ربك رحمن رحيم، عبد الله، الإلحاد يأس والإيمان أمل، الإلحاد ضنك والإيمان أطيب عيش، الإلحاد نفق مظلم والإيمان روضة زاهرة، الإلحاد ظلمات والإيمان نور، فهلم معنا إلى النور، إركب معنا في السفين، فليس ثم سواه من مركب للنجاة.
صاح، أظن رسالتي وصلتك وكلماتي وإن جفت قد بلغتك، فلا تقدم على الفعل الشنيع الذي تراودك عليه نفسك، بل هلم إلينا والحق بنا فإن ههنا جنة أسأل الله أن ندخلها جميعا قبل أن نحط الرحال هناك في دار السلام، والسلام.