وجعل بينهما برزخاً

0 2330

تحدث القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا عن ظاهرة فيزيائية عجيبة، لا يمكن للبشر مشاهدتها بأم أعينهم، بل إن اكتشافها من قبل العلماء في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي كان أقرب ما يكون للمعجزة؛ لكونها تحدث داخل البحار، وكذلك فإنه لا يمكن رؤيتها حتى ولو تم الوصول لمكان حدوثها. 

هذه الظاهرة هي وجود حاجز، أو فاصل بين المياه المالحة والمياه العذبة عند التقائهما في مكان ما، هذا الحاجز يحول دون حركة كل من المائين باتجاه بعضهما البعض، فلا يمتزجان مع أن مستوى الماء العذب أعلى من مستوى الماء الملح. 

تحدث القرآن الكريم عن وجود هذه الظاهرة العجيبة في ثلاث آيات قرآنية:

في قوله تعالى: {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا} (الفرقان:53).

وقوله عز وجل: {أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون} (النمل:61). 

وقوله سبحانه: {مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان} (الرحمن:19-20).

لعلماء التفسير قولين في حديثهم عن (الحاجز) أو (البرزخ) الموجود بين البحرين:

القول الأول: يرى أن الحاجز هو كيان مادي مشاهد، وهو اليابسة التي تفصل ما بين البحار والأنهار؛ فتحول دون اختلاط المياه ببعضها البعض. وإلى هذا ذهب الحسن البصري من التابعين.

القول الثاني: يذهب إلى أن (البرزخ) هو حاجز معنوي -غير مادي- يمنع اختلاط مياه البحار المالحة مع مياه الأنهار العذبة عند منطقة التقائهما. وهذا رأي مجاهد واختيار الطبري

ومن الواضح أن القول الأول يجافي الحقيقة، ويتعارض بشكل واضح مع مدلول هذه الآيات، وخاصة آيات سورة الرحمن، التي تؤكد أن البرزخ ينشأ عند التقاء ماء البحرين، لهذا لا يمكن بأي حال من الأحوال تفسير البرزخ والحجر المحجور على أنها اليابسة التي تفصل ما بين البحار والأنهار.

قال الطبري: "وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في معنى قوله: {وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا} دون القول الذي قاله من قال معناه: إنه جعل بينهما حاجزا من الأرض، أو من اليبس؛ لأن الله تعالى ذكره أخبر في أول الآية أنه مرج البحرين، و(المرج) هو الخلط في كلام العرب، فلو كان (البرزخ) الذي بين العذب الفرات من البحرين، والملح الأجاج أرضا، أو يبسا، لم يكن هناك مرج للبحرين، وقد أخبر جل ثناؤه أنه مرجهما، وإنما عرفنا قدرته بحجزه هذا الملح الأجاج عن إفساد هذا العذب الفرات، مع اختلاط كل واحد منهما بصاحبه. فأما إذا كان كل واحد منهما في حيز عن حيز صاحبه، فليس هناك مرج، ولا هناك من الأعجوبة ما ينبه عليه أهل الجهل به من الناس، ويذكرون به، وإن كان كل ما ابتدعه ربنا عجيبا، وفيه أعظم العبر والمواعظ والحجج البوالغ".

فحمل الآية على أن المراد بـ (الحاجز) حاجز معنوي، ينفي عن الآية وجه الإعجاز فيها؛ إذ الآية مساقة مساق بيان إعجازه سبحانه في خلقه، وبالغ قدرته في إيجاده. وكذلك فإنه لا يوجد وجه إعجاز واضح يفحم الكافرين بوجود الله عز وجل في كون اليابسة هي الفاصل الذي يفصل بين البحار والأنهار. 

أما منتهى الإعجاز في الخلق، فهو أن تلتقي البحار المالحة مع البحار العذبة دون أن تختلط مياههما من خلال وجود هذا البرزخ العجيب. 

فكلمة {مرج} التي وردت في هذه الآيات، تعني عملية الخلط أو الجمع بين مياه البحرين في مكان واحد. وسنبين في هذه المقالة أن وجود (البرزخ) بين المياه العذبة والمياه المالحة معجزة كبرى من معجزات الله في هذا الكون؛ ولولاه لأصبحت حياة البشر وبقية الكائنات الحية في خطر؛ بسبب شح المياه العذبة على سطح الأرض.

نسبة المياه العذبة 3% من مجمل المياه

تشير الدراسات العلمية، والأبحاث الكونية إلى أنه يتجمع ما نسبته (97%) من الماء الموجود على سطح الأرض في محيطات وبحار الأرض على شكل ماء مالح، والتي تغطي ما يقرب من سبعين بالمائة من سطح الأرض. بينما تبلغ نسبة المياه العذبة في الأرض ثلاثة بالمائة فقط، وتقدر بما يقرب من مائة مليون كيلومتر مكعب، وهي موزعة على اليابسة على شكل جليد في مناطق القطبين، وعلى شكل ثلوج في المرتفعات الشاهقة، وكمياه جوفية في طبقات القشرة الأرضية، وكمياه سائلة في البحيرات والأنهار والجداول والتربة، وكبخار ماء في الغلاف الجوي.

فالمياه المتجمدة في القطبين تشكل (70%) من مياه اليابسة، أي ما يقرب من سبعين مليون كيلومتر مكعب.

أما المياه الجوفية فتشكل (20%) من مياه اليابسة، أي ما يقرب من عشرين مليون كيلومتر مكعب. وأما مياه البحيرات العذبة فتشكل (0.3%) من مياه اليابسة أي ما يقرب من ثلاثمائة ألف كيلومتر مكعب، ومثلها تقريبا في البحيرات المالحة.

وأما المياه الموجودة في التربة فتشكل واحدا ونصفا من عشرة بالمائة من مياه اليابسة، أي ما يقرب من مائة وخمسون ألف كيلومتر مكعب. 

وأما المياه الموجودة في الغلاف الجوي على شكل بخار، فتشكل (3%) ثلاثة بالمائة من مياه اليابسة، أي ما يقرب من ثلاثين ألف كيلومتر مكعب.

أما مياه الأنهار والجداول فتشكل ثلاثة بالألف بالمائة من مياه اليابسة، أي ما يقرب من ثلاثة آلاف كيلومتر مكعب.

وتفيد الدراسات العلمية أن ما يزيد عن (50%) خمسين بالمائة من سكان العالم يعتمدون على المياه الجوفية لشربهم، وري مزروعاتهم، وسقاية مواشيهم. وتشير كذلك إلى أن سبعين بالمائة من سكان العالم يعيشون على شواطئ المحيطات والبحار، ويعتمدون في الغالب على المياه الجوفية التي تكون على شكل أنهار خفية، تجري تحت سطح الأرض، وتصب في هذه المحيطات والبحار. إن هذه المياه الجوفية العذبة تختلط بشكل مباشر بمياه المحيطات والبحار المالحة إلى أعماق كبيرة تحت سطح مستوى البحر. وكان من المفترض أن تتلوث المياه الجوفية العذبة بمياه البحار الشديدة الملوحة بسبب هذا الاختلاط؛ إلا أن البشر لم يحدث أن اشتكوا من مثل هذا التلوث، ولم يعرفوا السبب الذي يحول دون هذا التلوث.

وأول من لاحظ وجود (حاجز) مائي بين المياه الجوفية العذبة ومياه البحار المالحة العالم الهولندي غيبن (Baden-Ghyben) في عام (1888م)، والعالم الألماني هيرزبيرغ (Herzberg) في عام (1901م). ولقد تمكن العالمان -وبشكل مستقل- من اشتقاق علاقة تحدد عمق الحاجز عن سطح البحر؛ ولهذا سميت العلاقة باسميهما، وهي علاقة (غيبن-هيرزبيرغ) (Ghyben-Herzberg relation). وتعتمد العلاقة في اشتقاقها على حقيقة أن كثافة الماء المالح تزيد عن كثافة الماء العذب بنسبة (40-41) حيث تبلغ كثافة الماء المالح (1.025) غرام لكل سنتيمتر مكعب، بينما تبلغ كثافة الماء العذب غرام واحد لكل سنتيمتر مكعب، وبناء على هذه الحقيقة، وجد العالمان أن عمق (الحاجز) الموجود بين المائين تحت سطح البحر يبلغ أربعين ضعف ارتفاع مستوى الماء العذب فوق سطح البحر. وهذا يعني أن مثل هذا الحاجز لن ينشأ إذا تساوى مستوى الماء العذب مع مستوى الماء المالح. وهذا (الحاجز) المائي يكون على شكل جدار من الماء يحيط تماما بكامل المياه الجوفية من جهة الماء الملح، ويبدأ أعلاه من سطح البحر الملح، ويمتد إلى الأسفل، ولكن ليس بشكل رأسي، بل يميل بشكل منحني باتجاه المياه العذبة إلى أن يصل إلى قاع المياه العذبة.

لقد تبين لهذين العالمين أن وجود مثل (الحاجز) بين الماء الملح والماء العذب يمنع منعا باتا انتشار جزيئات الملح من الماء الملح إلى الماء العذب، وهو ما يخالف القانون الطبيعي، الذي ينص على أن جزيئات المادة في السوائل والغازات تنتشر من الوسط الأكثر تركيزا إلى الوسط الأقل تركيزا بهذه الجزيئات. إن (الحاجز) الذي ينشأ بين الماء الملح والماء العذب، ليس حدا فاصلا (sharp boundary) لا عرض له، بل هو منطقة لها سمك محدد، يهبط فيها تركيز الملح بشكل تدريجي من مستواه في جهة الماء الملح إلى مستواه في جهة الماء العذب، أطلق عليها اسم الماء الآسن أو الكريه (brackish water or fresh/salt mixture). وقد أطلق العلماء اسم برزخ الماء الملح-الماء العذب (saltwater-freshwater interface or transition) على هذا الحاجز المائي الذي يفصل ما بين المائين.

وقد جاءت الكلمات القرآنية التي تصف هذا (الحاجز) المائي في غاية الدقة، فقد وصفته بأنه {برزخ} (interface) و(البرزخ) كما هو معروف هو مرحلة، أو حالة انتقالية (transition state) تقع بين مرحلتين، أو حالتين مختلفتين. وأما كلمتي {حجرا محجورا} فتصف هذا (الحاجز) بأنه كـ (الحجر) بكسر الحاء، الذي يحجر، أو يمنع دخول الأشياء إليه، وهذا ما يقوم به هذا (الحاجز) أو (البرزخ) المائي؛ حيث يمنع دخول الماء الملح إليه من جهة البحر الملح، وكذلك الحال مع الماء العذب.

إن حركة الماء في داخل البرزخ محدودة جدا، بعكس حركة الماء الملح والماء العذب المحيطة به؛ ولذا فإنه يعتبر ماء راكدا، وتتعرض المواد العضوية في داخله للتعفن، وتنبعث منه رائحة كريهة؛ ولذا سمي بالماء الآسن أو الكريه (brackish water).

أما قوله تعالى {بينهما برزخ لا يبغيان} فالآية تعبر عن الوظيفة الرئيسية لهذا (البرزخ) المائي، وهي منع تدفق واختلاط الماء المالح من البحر الملح مع الماء العذب في البحر العذب، وكذلك العكس. وقد أكدت إحدى الآيات التي تتحدث عن (البرزخ) المائي، أن هذه الظاهرة تحدث بشكل رئيس عند التقاء البحار المالحة، والبحار العذبة.

إن ظاهرة حدوث (البرازخ) المائية تنشأ عند التقاء الكتل المائية المالحة مع العذبة، كما هو الحال مع التقاء المياه الجوفية العذبة مع مياه المحيطات والبحار المالحة، وكذلك التقاء مياه الأنهار العذبة مع مياه البحار عند مصابها، وكذلك التقاء المياه العذبة الناتجة من ذوبان الجليد القطبي في مياه البحار المالحة المحيطة بها. وتتجلى ظاهرة (البرازخ) المائية أكثر ما تتجلى في الجزر الصغيرة الموجودة في المحيطات، فمياه المحيطات المحيطة بهذه الجزر، وبسبب ضغطها الهائل قادرة على تلويث المياه الجوفية الموجودة فيها بشكل كامل، لولا عناية الله عز وجل بمخلوقاته من خلال إبداعه لهذه (البرازخ) المائية. وتظهر مياه الجزر الجوفية على شكل عدسات كروية، تحيط بها مياه البحار المالحة من كل ناحية؛ ولذا سميت بعدسات (غيبن-هيرزبيرغ) (Ghyben-Herzberg lens).

إن (البرازخ) المائية لا يقتصر دورها على منع اختلاط المياه المالحة مع المياه الجوفية العذبة، بل تقوم برفع مستوى هذه المياه من خلال دخول المياه المالحة تحت المياه العذبة، التي تطفو فوقها بسبب انخفاض كثافتها نسبيا.

ويتخوف العلماء من أن يؤدي الضخ الجائر للمياه الجوفية الموجودة عند شواطئ المحيطات والبحار إلى اختفاء (البرازخ) المائية فيها؛ وذلك عندما يصبح مستوى المياه الجوفية مساويا لمستوى سطح البحار. وفي حالة اختفاء (البرزخ) المائي، فإن مياه البحار المالحة ستتغلغل في المياه الجوفية العذبة، وتحولها إلى مياه مالحة غير صالحة للشرب، فيما يسمى بتغلغل، أو تداخل المياه المالحة (Saltwater intrusion).

إن هذا الاكتشاف المذهل للبرازخ المائية لا يترك لأي إنسان عاقل ومنصف مجالا للشك في صدق هذا القرآن الكريم، الذي أشار إلى وجود هذه (البرازخ) وبين مواصفاتها ودورها في منع مياه البحار المالحة من تلويث المياه العذبة، رغم اختلاطهما الظاهري. إن معظم البشر اليوم -وهم يعيشون في القرن الواحد والعشرين- يجهلون وجود هذه الحواجز المائية بين المياه المالحة والعذبة، رغم أن حياة أكثرهم تقوم على هذه الظاهرة العجيبة.

وفي المقابل، هل يمكن لبشر عاش قبل أربعة عشر قرنا أن يتكلم عن وجود مثل هذه الحواجز، التي لا يمكن أن ترى، ويحدد الدور البالغ الأهمية الذي تؤديه في حياة البشر وغيرهم من الكائنات الحية. وصدق الله العظيم القائل: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} (فصلت:53). والقائل سبحانه: {وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون} (النمل:93).

* مادة المقال مستفادة من موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة بتصرف يسير.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة