إمبراطورية ذو القرنين العلم والتمكين والنهضة

0 1199

تمثل قصص القرآن الكريم عن التجارب الناجحة في البناء والتأسيس والحركة والنمو رافدا للحركات والشعوب الإسلامية المتطلعة للنهوض من كبوتها، والسير في ركاب الحضارة الإنسانية.
فالقرآن الكريم –خطاب الله لعباده- هدى للعالمين لا في صيغتهم كأفراد، أو أسر، أو مجموعات مشرذمة، بل كأمة لها كيانها ومنهجها الخاص في القيام بوظيفة الاستخلاف في الأرض.
ومن بين أهم قصص القرآن الكريم الملهمة للأمة قصة "ذو القرنين" الملك المسلم العادل، التي وردت في نهاية سورة الكهف كإحدى نماذج الحاكم المسلم الذي أنشأ إحدى أكبر إمبراطوريات الإسلام في العالم.
لم يسجل لنا التاريخ شيئا يذكر عن "ذو القرنين"، وما وصلنا عنه هو ما ذكر لنا في القرآن الكريم.
يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "وذو القرنين المذكور في القرآن كان قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبنى السد كما أخبر الله تعالى، والسد من أقصى بلاد المشرق والشمال في مهب الصبا".
وقال: "يقال إن اسمه: الإسكندر بن دارا؛ وكان موحدا مؤمنا".

وإذا سلمنا أن أغلب قصص القرآن الكريم ترد في إطار تاريخ جغرافية العالم القديم –آسيا وأوروبا وأفريقيا، وبالأخص جزيرة العرب وما حولها، الشام ومصر والعراق وفارس والحبشة، كونها مهبط الرسالات ومحضن الديانات السماوية، فإن ملامح حركة "ذو القرنين" تأتي في هذه الحدود.
"ذو القرنين" كان ملكا موحدا، متبعا للرسالات السماوية التوحيدية في عصره؛ وقد اشتهر أمره عند أهل الكتاب، ما يرجح أنه كان شخصية تاريخية عظمى في المنطقة، باعتباره ملكها، وخلد فيها آثارا كبيرة، غير أن سقوط دولته نتيجة عوامل الضعف والانحطاط التي لحقت بها –كأي دولة، وتعاقب الدول، مع طول العهد وكثرة الأحداث، محى ذكره وغيب آثاره؛ ولهذا أراد أهل الكتاب تعجيز الرسول –صلى الله عليه وسلم- بسؤاله عنه بصفته دون أن يذكروا اسمه أو مكانته، أو أي خيط يشير إلى شخصيته؛ ولمـا كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أمة أمية، لا تكتب ولا تقرأ، وليس لها صلتها بتاريخ الأمم السابقة وثقافاتهم إلى الحد الذي يسعفه في الرد عن سؤالهم، كان الوحي هو المرشد والهادي.

وقد دون القرآن هذا السؤال: (ويسألونك عن ذي القرنين) والضمير يعود في الآية لأهل الكتاب الذين كانوا يحاولون تعجيز الرسول –صلى الله عليه وسلم- في الإجابة، وإفحامه عن الرد، فأراد الله أن يخيب ظنهم فأوحى لنبيه أن يقول: (قل سأتلو عليكم منه ذكرا).
فجاء رد الرسول –صلى الله عليه وسلم- عليهم مختصرا مفيدا، معجزا، فأخبرهم أن هذا الشخص كان ملكا مكن له في الأرض: (إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا) والأرض المقصودة هنا هي أرض معهودة لأهل الكتاب، فهي –والعلم عند الله- الشام؛ فالشام عبر التاريخ منطلق الإمبراطوريات التوحيدية العظمى: سليمان، الخلافة الأموية، خلافة آخر الزمان، هذا الموقع هو ما أتاح له التمدد غربا وشرقا وبعدة اتجاهات، ما يعني أنه كان في الوسط مع العالم القديم.
انطلق "ذو القرنين" آخذا بأسباب القوة ووسائل التمكين، لتوسيع مملكته؛ وقيام الدول وتوسعها لا يكون خواء من أمرين: العلم، والقوة.
فالعلم والقوة هما جناحا التمكين والتغلب لأي سلطة في الأرض، وهذا ما منحه الله لذي القرنين، وعمل ذو القرنين على التزود منهما (فأتبع سببا) فلما تمكن من أسباب العلم والقوة توجه غربا وشرقا لفتح الأرض وإقامة العدل فيها، وإيصال الإحسان لأهلها، ونشر الدين الحق.
(إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا) فالتمكين: "بالقوة والرأي والتدبير والسعة في المال والاستظهار بالعدد وعظم الصيت وكبر الشهرة" وتعدد الأسباب، و"السبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة".
(فأتبع سببا) أي: "وعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله إياها، أي: استعملها على وجهها، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه، ولا كل أحد يكون قادرا على السبب، فإذا اجتمع القدرة على السبب الحقيقي والعمل به، حصل المقصود، وإن عدما أو أحدهما لم يحصل.
وهذه الأسباب التي أعطاه الله إياها، لم يخبرنا الله ولا رسوله بها، ولم تتناقلها الأخبار على وجه يفيد العلم، فلهذا لا يسعنا غير السكوت عنها، وعدم الالتفات لما يذكره النقلة للإسرائيليات ونحوها، ولكننا نعلم بالجملة أنها أسباب قوية كثيرة، داخلية وخارجية، بها صار له جند عظيم، ذو عدد وعدد ونظام، وبه تمكن من قهر الأعداء، ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها، وأنحائها".

فالإيمان والتوحيد والصلاح لا يغني عن الأسباب المادية والدنيوية، فهي وإن كانت منجية في الآخرة إلا أن إضاعة أسباب التمكن في الدنيا اتكالا عليها خلل في التصور، ونقص في الإيمان، وقصور في مفهوم الصلاح. وإنما أوتي الكثير من هذا الباب.
ابتدأ ذو القرنين فتوحاته غربا، حتى وصل منتهى يابسة العالم القديم مما يلي الغرب، يقول تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما) وتوجهه غربا يتسق مع موقعه الأقرب للغرب، وكون الغرب أسهل سبلا، وأكثر خصوبة، وأكثر ثراء؛ ولعل ذلك يتسق تاريخيا مع فتوحات المسلمين نحو الغرب أكثر منها نحو الشرق، فالغرب أسهل نيلا، وأقرب فطرة وطبيعة.
ومغرب الشمس هو أقصى مكان في العالم القديم تغرب الشمس فيه، وأقصى مكان لمغيبها عن الوجود الإنساني في ذلك الحين المحيط الأطلسي، أو ما كان يطلق عليه قديما بـ(بحر الظلمات) وهي تسمية تشير إلى بعض ما فسر به المفسرون لفظة (حمئة) من أنها الطينة السوداء أو الماء المكدر، أو الهائج، وهذا لا يمنع من أن المراد بالعين المحيط والبحر؛ يقول ابن كثير: "(حتى إذا بلغ مغرب الشمس) يعني: من الأرض، انتهى إلى حيث لا يمكن أحدا أن يجاوزه، ووقف على حافة البحر المـحيط الغربي، الذي يقال له: (أوقيانوس) الذي فيه الجزائر المـسماة بالخالدات التي هي مبدأ الأطوال -على أحد قولي أرباب الهيئة، والثاني من ساحل هذا البحر -كما قدمنا.

وعنده شاهد مغيب الشمس، فيما رآه بالنسبة إلى مشاهدته: (تغرب في عين حمئة) والمـراد بها البحر في نظره، فإن من كان في البحر أو على ساحله يرى الشمس كأنها تطلع من البحر، وتغرب فيه؛ ولهذا قال: (وجدها) أي: في نظره، ولم يقل: فإذا هي تغرب في عين حمئة، أي ذات حمأة".
وهنا يمكن أن نستشف بأن هذا الفتح تمكن من جهة الغرب، حتى أصبح ذو القرنين الحاكم فيه: (ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا).
ولا نبعد إذا قلنا: إن احتمال بلوغ ذي القرنين إلى بلاد شمال غرب أفريقيا أو أرض الأسبان والبرتغال (الأندلس) احتمال مقطوع به أمام هذه القوة الإسلامية المجاهدة الآخذة بأسباب العلم والقوة، والحاملة لواء العدل والإحسان.
عزز "ذو القرنين" ملكه في الغرب بنشر الإسلام، وإنفاذ شريعته في مجتمعاته، وإقامة العدل، ثم عاد بعد هذا التمكين لتوسيع مملكته من جهة الشرق؛ لكنه كما جاء في القرآن الكريم لم يبلغ (مشرق الشمس) ولكنه بلغ مطلعها؛ وبين المصطلحين فرق كبير، قال تعالى: (حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا).
والآيات تشير إلى أن ذو القرنين سار إلى بلاد عالية جدا، حتى إنها لتشرق عليهم الشمس من علو (تطلع على..). وهذه البلاد التي هي في أعالي الجبال، جرداء من الشجر.

فلا يمكن للزارع والراعي فيها، أو الساعي على معاشه فيها، أو المتنقل بين قراها، أن يجد له من دون الشمس الطالعة سترا، يخفف عليه من شعاعها وحرها، والستر هنا لا يقصد به بيوتهم التي تكنهم، فهذا لا بد لهم منه، لكنه الستر الذي يمكنهم من العمل وطلب العيش والسير في الأرض زراعة ورعيا.
وإذا ما ذهبنا نبحث عن هذه المنطقة لوجدناها أقرب ما تكون إلى "هضبة التبت" الكائنة على مرتفعات جبال الهملايا وما وراءها، وهي توصف بأنها "سقف العالم" لقربها من الشمس، فارتفاعها يصل إلى 4000م فوق سطح البحر، وبها قمم تتجاوز في ارتفاعها 7000م، وهو ما يجعلها شحيحة في الأكسجين، وباردة جدا، وهذه الخصائص الطبيعية حالت دون استيطان الإنسان لها بكثرة، ولا تزال نسبة السكان فيها حتى اليوم قليلة.
وهذا يعني أن ذو القرنين تمكن من إخضاع فارس وبلاد السند والهند لسلطانه، وأنه توجه باتجاه الصين، لكنه لم يتمكن من إتمام مسيره وقطع تلك المفاوز الجرداء الباردة الخالية من الوجود الإنساني الكبير، حيث لا شجر يستظل به، ولا أنعام تكفي لتغذية جيش جرار!
وقد فسر أهل التأويل قوله تعالى: (كذلك) على أنه إشارة إلى أنه سار في أهل تلك البلدان التي تطلع عليها الشمس سنة أهل المغرب، فنشر فيهم الإسلام وأقام فيهم شريعة الله وعدل بينهم.

هذا التمدد حقق له قوة خيالية، يعجز المرء عن الإحاطة بها، إلا الله (وقد أحطنا بما لديه خبرا): أي "بما لديه من الجنود والآلات والعدد والأسباب".
إن شخصية "ذو القرنين" وظفت الطاقات والقدرات والإمكانات في إقامة دولة مستقرة آمنة مستقلة بمواردها، تمتلك نواصي العلم والصناعة والقوة والجغرافيا بما فيها من ثروات طبيعية وطرق تجارة عالمية.
لم يكتف "ذو القرنين" بهذه الفتوحات وهذا المـلك العريض، فواصل جهاده طلبا في توسيع رقعة الدولة الإسلامية رغبة في إيصال العدل والإحسان والنفع للناس؛ فلم تكن لهمة بهذا المستوى أن تقنع بالدون. وهنا توجه ذو القرنين باتجاه آخر، حيث لا توجد إشارة غير سلاسل جبلية وعرة لا يستطيع شعب أن يسكنها، ولا جيش أن يعبرها، بينهما ممر للعبور.
وبهذا يمكننا أن نتخيل إمبراطورية "ذو القرنين" وهي تمتد من حدود الصين شرقا عبورا بالهند والسند وفارس، ثم أرض العراق والشام وآسيا الوسطى، عبورا بمصر وشمال أفريقيا حتى بلاد المغرب والأندلس، ومن ثم ضمت تحت ظلالها شعوبا وحضارات وثقافات عدة، وكانت من أقوى الدول في زمنها، وقد تأسست في فترة وجيزة قد لا تتجاوز متوسط العمر الطبيعي (60- 70) عاما، وبقائد مسلم فذ.
إن قيام حضارة كبيرة ودولة واسعة ليس بالأمر الصعب إذا ما وجدت القيادة القادرة صاحبة الإرادة التي تمتلك من خصائص الشخصية والأخلاق ما يجعلها صانعة للمجد.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة