خطايا القلوب

0 1467

صورة معبرة، ومشهد عجيب، صورة ذلك الرجل الطيب، السليم القلب الذي يطوي صدره على قلب صاف كالزجاجة، ليس فيه غل ولا حسد ولا غش ولا شحناء ولا بغضاء، قلب صاف مصفى قد أسلم لله رب العالمين.

إن هذا الرجل الذي يتعبد لله بتطهير قلبه وتصفية فؤاده، هذه الصورة تفتح أعيننا عندما نتأملها إلى مشكلة كبرى، إنها مشكلة ذلك الانتماء السلبي للإسلام الذي يعيشه كثير من المسلمين، صورة التدين المنقوص الذي لا يؤثر في سلوك، ولا يتجلى في عبادة، ولا يفيض على القلب والوجدان.

إن ما نراه في حال كثير من المسلمين في انتمائهم لهذا الدين أشبه ما يكون بقناعة عقلية مجردة، أو عاطفة قلبية جميلة، بل ربما رأيت قناعة بعض المتحمسين أشبه بقناعة المنتمين إلى مذهب حركي بحت يقوم على النظريات والأفكار والتنظيمات المجردة.
 

هم وهذا حالهم يفوتهم الفرق بين طبيعة الإسلام وطبيعة المذاهب الفكرية، إن الإسلام ليس قناعة عقلية فقط، أو عاطفة قلبية فقط، أو أحكاما تشريعية فقط، بل هو كل ذلك وأن تكون الحياة كلها لله رب العالمين:{بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.

أيها الأحباب:
أين بصرنا في تديننا؟
أين أثره علينا وفي سلوكنا؟
نحن الذين نطالب أن يحكم بالإسلام ينبغي أن نطالب مع ذلك بأن نحكم نحن بالإسلام على أنفسنا، أن نحكم الإسلام علينا أولا فيكون الإسلام منهاج حياتنا نحن كما يجب أن يكون منهاج المجتمع ونظام حياة الدولة.

تعالوا أيها الأخوة للنظر إلى حالنا مع القلب الذي هو ملك الأعضاء: إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.

هل تفقدنا القلوب! هل تبصرنا في أدوائها! هل نظرنا إلى عللها! هل تفقدنا القلوب من أمراض تتسرب إليها على غفلة منا فتخالط مشاعرنا وتنمو في وجداننا.

إن معاصي القلوب معاصي ينبغي أن نخاف منها أكثر مما نخاف من معاصي الجوارح فهي أشد خطرا وأفتك أثرا.

هل تفقدنا القلوب من خطرات الاستعلاء والكبر ووساوس الغرور والعجب! هل تفقدنا القلوب من شهوة الرياء وحب الظهور؟
هل تفقدنا القلوب من آثم الحسد والبغضاء!
وغير ذلك من خطايا القلوب التي تذهب فضل الصيام وثواب القيام وتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. هذه الخطايا التي أتى الوعيد عليها على أنها موارد هلاك، استمع بقلب يعي وعقل يعقل، استمع إلى هذه النذر المحمدية:

يقول (صلى الله عليه وسلم):
. [لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر].
. [ثلاث مهلكات؛ شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه].
. [دب إليكم داء الأمم قبلكم؛ الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين].

ولا تزال تسمع إلى النذر في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) محذرة من خطايا القلوب، منذرة بالوعيد عليها.

إن القضية أيها الأخوة في الله جد لا هزل فيه، إننا أمام أدواء مهلكة، وأمراض قلبية مدمرة، وآفات خطيرة، ولكن الخطر ليس فقط في هذه الأدواء بذاتها، ولكن يأتي الخطر أيضا من الظروف المحيطة بها.

إن المشكلة في حياة كثيرين أن هذه الخطايا والأدواء تتسرب إلى القلوب على حين غفلة من أصحابها، فهي أدواء خفية، وأمراض قلبية تدب إلى القلب على غفلة منا.
استمع إلى وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) لأحد هذه الأمراض حيث يقول (صلى الله عليه وسلم) وهو يتحدث عن الرياء:
[اتقوا الشرك الخفي؛ فإنه أخفى من دبيب النمل].
إنه يتسرب إلى القلب على حين غفلة؛ فيجثم ويترعرع فيه حتى يرويه.

ثم تأتي مشكلة أخرى، وهي أن المصاب بهذه الأدواء يتآلف معها، فهي تنموا وتتضاعف دون أن يحس ذلك من نفسه، بل دون أن يؤنب نفسه عليها.

اسمعني بارك الله فيك: ألسنا نرى من أنفسنا أنا إذا ولغنا في غيبة غافل عنا أننا نحس بعد ذلك بوخزة في القلب، وألم في النفس، ثم ربما أعقبنا ذلك بالاستغفار والندم وبالاستغفار لمن اغتبناه.
ألسنا نعايش ذلك! ألسنا نحس به؟! نعم.

إن هذا شعور محسوس في قلب كل واحد منا، ولكن متى وقفنا مع أنفسنا لنتفقد فيها خواطر العجب، أو أدواء الحسد، أو آفة البغضاء والشحناء!

من هو الذي وقف منا مع نفسه معنفا لأنه أحس بالبغضاء تدب في قلبه؟
من هو الذي وقف منا مع نفسه محذرا لأن الحسد تحرك بين جوانحه؟
من هو الذي وقف منا مع نفسه مذعورا لأنه أحس فيها شهوة رئاسة، وشهوة تصدر؟

إن هذه مشكلة أخرى وهي أن الإنسان يتآلف مع هذه الخطايا والأمراض فلا يتفقدها في نفسه، بل ربما تضاعف ذلك إلى مرحلة أخرى هي الكسر المضاعف عندما يتعدى ذلك إلى تبرير هذه الخطايا وفلسفة هذه الأمراض، وما أيسر ذلك على صاحب الهوى، أن يصطنع المعاذير لنفسه، ويفتح لها سبل التهرب، ويروج على نفسه وعلى من حوله هالة من الضباب تستر عن نفسه أولا وعن من حوله خبيئته.
إلا أن الدين لا يخدع بشيء من ذلك، والله جل جلاله لا يخادع، إن الذين جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يقولون له ائذن لنا ولا تفتنا: ائذن لي ولا تفتني، فقال الله له: {ألا في الفتنة سقطوا}.
والذين جاءوا إليه يقولون إن بيوتنا عورة، قال الله لهم: {وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا}.

لذلك نرى العداوات التي يفرزها الحسد تلبس بقمص متعددة من الغيرة، من التـناصح، من لباس الصالح العام، من تقويم الآخرين، من إحياء علم الجرح والتعديل وهكذا. ألبسة فضفاضة تلبس على داء اسمه الحسد.

أخي بارك الله فيك!! وأنا أقول وأنت تسمع هذا الكلام ألا نلاحظ أن المتحدث يتحدث، والمستمع يستمع دون أن يستشعر أن هذا الأمر يعنيه هو بالذات، أو أنه واقع فيه، إن هذه نقطة من نقاط الخطر مريعة.

خذ على سبيل المثال بعض ظواهر خطايا القلوب:
الحسد، نتحدث عنه وكأنه كابوس لا يرى إلا في الأحلام، أو كأنه قطار لا يركبه إلا من وقف في محطته وقطع تذكرته، لكنا لا نفطن إلى تسرب الحسد إلى النفوس من خلال الفرح بزلات الأقران، من خلال الفرح بأخطاء الزملاء، بل لو رصد كل واحد منا العداوات في نفسه وسبرها وبحث عن أسبابها لوجد أن الأسباب الظاهرة قشر لداء اسمه الحسد.

خذ على سبيل المثال العجب والتعالي، إن العجب والغرور قد لا يخرج بصورة الإطراء للنفس، قد لا يخرج بصورة التمدح، لكنه يخرج بصورة أخرى هي التنقص للآخرين، تقليم جهودهم، عد عيوبهم، الإفاضة بذكر نقائصهم، لماذا؟ حتى يتساقط هؤلاء كلهم ويبقى المتحدث، إذا به يقول بلسان الحال أنا الكامل وهؤلاء فيهم وفيهم، ليقول بلسان الحال أنا خير من أولئك.

خذ مثالا آخر: الكبر، ليس بالضرورة أنه تلك المشية المتبخترة، أو ذلك الأنف المشمخر، كلا فقد يظهر الكبر في صورة الاستعلاء عن الحق برده، قد يظهر الكبر في صورة احتقار الناس وغمطهم والنظر إليهم بازدراء، وإن مشى صاحبه الهوينا وإن شمر ثيابه ونكس رأسه.
ولذلك ذكر طبيب القلوب الإمام ابن القيم رحمه الله في معرض حديث له فقال: "إنه ربما كان صاحب الخلقان والثياب المرقعة أشد كبرا بمرقعته من صاحب الثياب الحسنة بثيابه".

خذ مثالا آخر حب الشرف والرئاسة، حب التصدر قد لا يظهر في صورة دعوة صريحة إلى ذلك، ولكن يظهر في صورة النقد العدائي باسم التناصح، قد يظهر في صورة الحرص على أهواء النفس باسم الحرص على مصالح الدعوة. إلى غير ذلك من الاختلاطات التي يعرفها من أطال التأمل والوقوف على دقائق النفوس وخلجات الأفئدة.

أما الشحناء والبغضاء، فهذا الذي نعرفه من أنفسنا وحالنا أفرادا وجماعات، على حظوظ من الدنيا تافهة، بل ربما تعدى الأمر إلى العداء بين الجماعات، وإلى الشحناء بين الشعوب، فرأينا الحدود الجغرافية ولها تأثيرها في الشحناء بين المسلمين، ورأينا الخلافات السياسية ولها تأثيرها في العداوات القلبية بين الشعوب المسلمة. بل ربما رأيت الشحناء والعداوة بين أقاليم البلد الواحد.

أيها الأحباب: إن البراءة من هذه الخطايا وتطهير القلوب من هذه العلل يفضي إلى الوصول إلى مرتبة عظمى هي التي أدخلت ذاك الصحابي الجليل مخموم القلب سليم الصدر الجنة يوم سبر عمله فإذا هو لم يتميز بعمل ولكن تميز بقلب صاف وضيء رقراق.
ولذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه وقد سألوه يوما عن أي الناس أفضل: [كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا يا رسول الله قد عرفنا صدوق اللسان، فما مخموم القلب؟ قال هو التقي النقي الذي لا أثم فيه ولا بغي ولا حسد].
فانظر كيف أن براءته من الإثم والبغي والحسد أوصلته إلى رتبة شريفة منيفة، وهي أن يكون أفضل الناس.

إن الأمر الذي ينبغي أن نعيه هو أننا بأشد الحاجة إلى تفقد خطرات القلوب وتصفيتها، وأن يعلم كل منا أنه يوم يدب إلى قلبه شيء من خطايا القلوب فإن معنى ذلك أن النار تشتعل في ثيابه ويوشك أن تحرق بدنه، ولذا فإن البحث عن أسباب تزكية القلوب وتطهيرها أمر ينبغي أن يجد فيه ويسعى إليه كل مسلم صادق.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة