ما وَدَّعَك رَبُّكَ وما قَلى

0 3555

في يوم الاثنين من رمضان من العام الأربعين من مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي غار حراء نزل جبريل عليه السلام بأمر الله عز وجل، يحمل أعظم رسالة، إلى أفضل نبي، ليغير الحياة من الشرك إلى التوحيد، ومن الظلمات إلى النور، قال الله تعالى: {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد}(إبراهيم:1)، وقد أجمع رواة السيرة النبوية على أن بداية نزول الوحي كان في شهر رمضان، وأول ما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}(العلق:1). قال ابن القيم في زاد المعاد فيما ذكره عن عائشة رضي الله عنها: "ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة, فجاء الملك وهو بغار حراء, وكان يحب الخلوة فيه, فأول ما أنزل عليه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}(العلق:1) هذا قول عائشة والجمهور". وما رواه البخاري عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ قال:{يا أيها المدثر}(المدثر:1): محمول على الأولية بالنظر إلى ما بعد الفترة، لا الأولية المطلقة، قال النووي: "فالصواب أن أول ما نزل {اقرأ} وأن أول ما نزل بعد فترة الوحى {يا أيها المدثر)".

فتور الوحي:

المراد من فتور الوحي: احتباسه وتأخر مجيئه، وعدم تتابعه وتواليه في النزول مدة من الزمان، قال الزرقاني: "وفتر الوحي أي: احتبس جبريل عنه بعد أن بلغه النبوة". والحكمة من فتور الوحي مدة: أن يذهب الروع الذي كان قد وجده النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه لما نزل عليه جبريل عليه السلام أول مرة، وليحصل له الاشتياق إلى عودة الوحي، قال ابن حجر: "وفتور الوحي: عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود". وقد فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: الأولى في أول نزوله، ثم نزلت بعده سورة المدثر، والثانية بعد نزول عدة سور من القرآن، ثم نزلت بعده سورة الضحى.
 
المرة الأولى لفتور الوحي:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث عن فترة الوحي: (فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجئثت منه فرقا، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تبارك وتعالى: {يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر}(المدثر: 1 : 5) ـ وهي الأوثان ـ، قال: ثم تتابع الوحي) رواه مسلم. وروى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي وفيه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم ورقة بن نوفل بما رأي، وقول ورقة له: (إن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا، قالت عائشة: ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي)، وهذه هي المرة الأولى التي فتر فيها الوحي.

المرة الثانية:

عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: قد ودع محمد، فأنزل الله عز وجل: {والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى}(الضحى: 3:1)) رواه مسلم.
وورد في صحيح البخاري روايتان عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه، إحداهما بلفظ: (قالت امرأة: يا رسول الله، ما أرى صاحبك إلا أبطأك فنزلت: {ما ودعك ربك وما قلى})، والثانية بلفظ: (فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك)، قال ابن كثير والبغوي: "قيل: إن هذه المرأة هي أم جميل امرأة أبي لهب"، وقد رجح ابن حجر أن تكون صاحبة المقالة في الرواية الأولى هي: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها لأنها قالت: (يا رسول الله) وعبرت عن جبريل بقولها: (صاحبك)، وصاحبة المقالة في الرواية الثانية هي: أم جميل العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب وامرأة أبي لهب، وشتان بين المراد من المقالتين، فالأولى قيلت توجعا وأسفا، والثانية قيلت تهكما وشماتة، فقال في فتح الباري: "وسياق الأولى يشعر بأنها قالته تأسفا وتوجعا، وسياق الثانية يشعر بأنها قالته تهكما وشماتة". 

وقال ابن عاشور في تفسيره لسورة الضحى: "والظاهر أن هذه السورة نزلت عقب فترة ثانية فتر فيها الوحي بعد الفترة التي نزلت إثرها سورة المدثر، فعن ابن عباس وابن جريج: (احتبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوما أو نحوها، فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه، فنزلت الآية).. واحتباس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين: أولاهما: قبل نزول سورة المدثر أو المزمل، أي بعد نزول سورتين من القرآن أو ثلاث على الخلاف في الأسبق من سورتي المزمل والمدثر، وتلك الفترة هي التي خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون قد انقطع عنه الوحي.. وقد قيل: إن مدة انقطاع الوحي في الفترة الأولى كانت أربعين يوما ولم يشعر بها المشركون لأنها كانت في مبدأ نزول الوحي قبل أن يشيع الحديث بينهم فيه وقبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليلا .
وثانيتهما: فترة بعد نزول نحو من ثمان سور، أي السور التي نزلت بعد الفترة الأولى.. فالذي نظنه أن احتباس الوحي في هذه المرة كان لمدة نحو من اثني عشر يوما، وأنه ما كان إلا للرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم كي تستجم نفسه وتعتاد قوته تحمل أعباء الوحي، إذ كانت الفترة الأولى أربعين يوما، ثم كانت الثانية اثني عشر يوما أو نحوها.. وبهذا الوجه يجمع بين مختلف الأخبار في سبب نزول هذه السورة (الضحى) وسبب نزول سورة المدثر".

فائدة:

سورة الضحى من السور المكية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي بفترة وجيزة، وهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد اشتملت على معان وقيم إنسانية عظيمة، وقد بدأت بأن أقسم الله عز وجل بآيتين كونيتين، هما من أعظم دلائل قدرته سبحانه، وهما الضحى، والليل إذا سجى، وعظيم المقسم به يدل على عظيم المقسم من أجله، وهو أن الله ما تخلى عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك إشارة إلى عناية الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم حيث أنزل قرآنا في سورة كاملة (الضحى) ـ يسلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم ويبشره ويطمئنه.. قال السعدي في تفسيره لسورة الضحى: "{ما ودعك ربك}، أي: ما تركك منذ اعتنى بك ولا أهملك منذ رباك ورعاك، بل لم يزل يربيك أحسن تربية، ويعليك درجة بعد درجة. {وما قلى} وما قلى الله إياك، أي: ما أبغضك منذ أحبك، فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده، والنفي المحض لا يكون مدحا إلا إذا تضمن ثبوت كمال، فهذه حال الرسول صلى الله عليه وسلم الماضية والحاضرة، أكمل حال وأتمها، محبة الله له واستمرارها، وترقيته في درج الكمال، ودوام اعتناء الله به. وأما حاله المستقبلية، فقال: {وللآخرة خير لك من الأولى}(الضحى: 4) أي: كل حالة متأخرة من أحوالك، فإن لها الفضل على الحالة السابقة، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يصعد في درج المعالي، ويمكن له الله دينه، وينصره على أعدائه، ويسدد له أحواله حتى مات، وقد وصل إلى حال لا يصل إليها الأولون والآخرون، من الفضائل والنعم، وقرة العين، وسرور القلب، ثم بعد ذلك لا تسأل عن حاله في الآخرة من تفاصيل الإكرام، وأنواع الإنعام، ولهذا قال: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}(الضحى: 5)، وهذا أمر لا يمكن التعبير عنه بغير هذه العبارة الجامعة الشاملة".

السيرة النبوية تعطينا تفسيرا دقيقا للقرآن الكريم، وتساعد العلماء على فهم الآيات القرآنية, وتذوق روحها ومعرفة مقاصدها وسبب نزولها، ومعايشة أحداثها والاستنباط منها, إذ أن كثيرا من الآيات القرآنية إنما تفسرها وتجليها الأحداث والمواقف التي مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب"، وقال ابن دقيق العيد: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن"، وقال الواحدي: "لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة