يا نساءَ النَبيِّ لسْتُنَّ كأحَدٍ مِن النِّساء

0 1882

تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره شعبة عظيمة من شعب الإيمان، ومن حقه صلى الله عليه وسلم على أمته أن يجل ويعظم ويوقر، قال الله تعالى: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه}(الفتح: 9)، قال ابن كثير: "قال ابن عباس وغير واحد: يعظموه، {وتوقروه} من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام"، وقال السعدي:" {وتعزروه وتوقروه} أي: تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقروه أي: تعظموه وتجلوه، وتقوموا بحقوقه". وتوقيره صلى الله عليه وسلم سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}(الأعراف:157)، قال ابن كثير: "وقوله: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه} أي: عظموه ووقروه، {واتبعوا النور الذي أنزل معه} أي: القرآن والوحي الذي جاء به مبلغا إلى الناس، {أولئك هم المفلحون} أي: في الدنيا والآخرة".

ومن صور ومظاهر توقير النبي صلى الله عليه وسلم: توقيره في زوجاته رضوان الله عليهن أجمعين، فيجب على المسلمين ـ في كل زمان ومكان ـ أن يحفظوا لهن حقهن في الحرمة والتوقير، والإكرام والإعظام، والمكانة التي جعل الله تعالى لهن، فهن اللاتي ارتضاهن الله عز وجل أن يكن زوجات لنبيه صلى الله عليه وسلم وأمهات للمؤمنين، قال الله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}(الأحزاب:6). قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "أي: في الحرمة والاحترام، والإكرام والتوقير والإعظام". والهدف من إطلاق هذه الكنية عليهن ـ أمهات المؤمنين ـ تقرير فضلهن، وحرمة الزواج بهن بعد مفارقته صلى الله عليه وسلم لهن، وهو الحكم الوارد في قوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما}(الأحزاب: 53)، قال القرطبي: "شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين، أي: في وجوب التعظيم, والمبرة, والإجلال, وحرمة النكاح على الرجال". وقال ابن تيمية: "وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاحهن بعد موته صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب احترامهن، فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم".

وكيف لا تكون لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة وتلك المكانة وهن اللآتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عندما نزلت آيتا التخيير قال تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما}(الأحزاب 29:28)، وبعد اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة كرمهن الله وكافأهن على اختيارهن أحسن تكريم وأعظم مكافأة، ثم ميزهن عن جميع النساء فقال تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء}(الأحزاب: 32)، قال القرطبي: "يعني في الفضل والشرف، وذلك لما منحهن الله من صحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وعظيم المحل منه ونزول القرآن في حقهن"، وقال أبو بكر بن العربي: "قوله: {لستن كأحد من النساء} يعني: في الفضل والشرف، فإنهن وإن كن من الآدميات فلسن كإحداهن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان من البشر جبلة، فليس منهم فضيلة ومنزلة، وشرف المنزلة لا يحتمل العثرات، فإن من يقتدى به، وترفع منزلته على المنازل جدير بأن يرتفع فعله على الأفعال ويربو حاله على الأحوال". وقال ابن تيمية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصا خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره وكان لها منه المنزلة العالية. والصديقة بنت الصديق (عائشة) رضي الله عنهما، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)".

من فضائل أمهات المؤمنين:

الفضيلة الأولى: الحديث عنهن بوصف الزوجية، فقد ذكر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الزوجية في غير ما موضع من القرآن الكريم، ومن ذلك أول آية من آيات التخيير: {يا أيها النبي قل لأزواجك}(الأحزاب: 28)، فكان الخطاب لهن في القرآن الكريم بلفظ الزوجة ـ غالبا ـ حتى في مقام العتاب كما في سورة التحريم، ولم يخاطبهن بلفظ المرأة.
الثانية: اختيارهن جميعا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة، وهذا أمر مقطوع به، قال الله تعالى: {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما}(الأحزاب:29)، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "هذا أمر من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن، فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة". وفي تفسير الطبري وغيره: "وبدأ بعائشة رضي الله عنها، فلما اختارت الله ورسوله والدار الآخرة، رئي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتابعن كلهن على ذلك، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة" .
الثالثة: العناية بنصحهن وخطابهن بأحسن الألقاب، قال الله تعالى: {يا نساء النبي}(الأحزاب:30)، يقول الألوسي في تفسيره: "{يا نساء النبي} تلوين للخطاب، وتوجيه له إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن، ونداؤهن ها هنا وفيما بعد بالإضافة إليه عليه الصلاة والسلام لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام، واعتبار كونهن نساء في الموضعين أبلغ من اعتبار كونهن أزواجا كما لا يخفى على المتأمل".
الرابعة: مضاعفة الأجر، وهذا منطوق قوله تعالى: {نؤتها أجرها مرتين}(الأحزاب:31). قال الطبري: "يعطي الله الواحدة منهن مثلي ما يعطي غيرهن من سائر النساء". وقال السعدي: "لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ذكر مضاعفة أجرهن، ومضاعفة وزرهن وإثمهن لو جرى منهن، ليزداد حذرهن، وشكرهن الله تعالى".
الخامسة: البشارة بالجنة، لكونهن بالاتفاق قنتن لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعملن صالحا، قال السعدي: "{ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما}(الأحزاب:31)، {ومن يقنت منكن} أي: تطيع {لله ورسوله وتعمل صالحا} قليلا أو كثيرا، {نؤتها أجرها مرتين} أي: مثل ما نعطي غيرها مرتين، {وأعتدنا لها رزقا كريما} وهي الجنة، فقنتن لله ورسوله، وعملن صالحا، فعلم بذلك أجرهن". وقال ابن كثير: {وأعتدنا لها رزقا كريما} أي: في الجنة، فإنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أعلى عليين، فوق منازل جميع الخلائق، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش".
السادسة: تفضيلهن على عموم النساء، وذلك من قول الله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء}(الأحزاب: 32)، قال البغوي في تفسيره: "قال ابن عباس رضي الله عنه: ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي".
الفضيلة السابعة: الاصطفاء الإلهي، قال الله تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا}(الأحزاب: 34)، قال ابن كثير: "أي: ذا لطف بكن، إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته والحكمة وهي السنة، خبيرا بكن إذ اختاركن لرسوله أزواجا".. وقال: "واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس"، وقال الزمخشري: "{خبيرا} أي: علم من يصلح لنبوته ومن يصلح لأن يكونوا أهل بيته".

هذه بعض فضائل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تدل على اصطفاء الله لهن على سائر النساء، مما يستوجب على كل مسلم ومسلمة: حبهن وتوقيرهن ومعرفة فضلهن، ودراسة سيرتهن، وما كان لهن من دور في مؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته، وما كان لهن من دور بعد وفاته في حفظ مسائل الدين ونشرها بين الأمة، فإن هناك أمورا عديدة من هديه صلى الله عليه وسلم لا يمكن العلم بها إلا من طريق زوجاته رضي الله عنهن.

لقد كان سلفنا الصالح منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم إلى عصرنا هذا يضعون أمهات المؤمنين في مكانة عالية، ولا يسمحون لأي مبغض حاقد أن يطعن فيهن أو في واحدة منهن، لأنهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وأمهات للمؤمنين، فحبهن وتوقيرهن والأدب معهن دين يدان به، وقربى يتقرب بها إلى الله تعالى، وهو صورة ومظهر من مظاهر حبنا وتوقيرنا لنبينا صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}(الأحزاب:6).. ومن ثم فالوقيعة فيهن أو في واحدة منهن من أعظم الإيذاء له صلى الله عليه وسلم، لاسيما من طعن بالفاحشة والإفك في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال أبو بكر الباقلاني: "ويجب أن يعلم أن خير الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضل الصحابة العشرة الخلفاء الراشدون الأربعة رضى الله عن الجميع وأرضاهم، ونقر بفضل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك نعترف بفضل أزواجه رضي الله عنهن، وأنهن أمهات المؤمنين، كما وصفهن الله تعالى ورسوله، ونقول في الجميع: خيرا، ونبدع، ونضلل، ونفسق من طعن فيهن أو في واحدة منهن، لنصوص الكتاب والسنة في فضلهم ومدحهم والثناء عليهم، فمن ذكر خلاف ذلك كان فاسقا مخالفا للكتاب والسنة نعوذ بالله من ذلك". وقال ابن قدامة: "ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة