- اسم الكاتب: الرياض ـ وائل الظواهري
- التصنيف:دراسات في الدعوة
لعل من نافلة القول أن العالم أضحى قرية صغيرة عقب ظهور وسائل الاتصال والثورة التقنية المدهشة التي باتت نتائجها واضحة على كافة أنحاء البسيطة، والحق أنه ما إن ظهرت القنوات الفضائية وانتشرت حتى بدأ يكثر الجدل حول إمكانية ظهور العلماء والدعاة من خلالها لتوجيه النصح والدعوة لعامة الناس، وعدم ترك المجال مفتوحا أما المفسدين لينشروا أفكارهم الهدامة متى شاءوا ، لاسيما وأن أغلب هذه القنوات أخذت تذيع ما شاءت دون ضوابط شرعية وأخلاقية.
ومع مرور الوقت تحول الأمر من مجرد جدل فرضي إلى مناقشات وخلافات ونزاعات قائمة في العديد من المنابر الفقهية ومراكز الفتوى وغيرها ، بناء على الظهور الفعلي لعدد من الدعاة في هذه القنوات، وأصبح طلاب العلم ما بين مؤيد ومعارض وكل له وجهة نظره.
وفي محاولة لوضع النقاط على الحروف التقت " الشبكة الإسلامية" عددا من العلماء لعرض آرائهم حول قضية استغلال الدعاة القنوات الفضائية لنشر الدعوة إلى الله .
رسول لكافة البشر!!
قبل الخوض في الموضوع يذكرنا الأستاذ الدكتور جعفر إدريس (رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة): "بأن وسائل الاتصال الحديثة تعتبر آية دالة على صدق النبوة المحمدية، ذلك أنها جعلت بلدان العالم كلها بمثابة البلد الواحد بعد أن كانت عدة بلدان في الماضي، ويرسل لكل أمة رسول، وفي هذا دلالة ناصعة أن محمدا عليه الصلاة والسلام قد أرسل رسولا للناس كافة لا لقومه خاصة".
ويرى الدكتور جعفر أن في هذه الوسائل فرصة لنشر الرسالة المحمدية، إلا أنها في الوقت نفسه تعتبر أكبر تحد يواجه الدعاة إلى هذه الرسالة ؛ لأنها ـ كما يقول ـ " إذا كانت قد يسرت لنا إيصال دعوة الإسلام إلى غير المسلمين، فقد سهلت لغير المسلمين ـ ولا سيما الغربيين ـ إيصال دعوتهم إلينا، بل إنهم وعبر هذه القنوات وغيرها استطاعوا أن يوجدوا لهم عملاء في بلادنا، هم من بني جلدتنا ويعربون بألسنتنا، ويكتبون في صحفنا، ويتكلمون في إذاعاتنا ويظهرون في قنواتنا، ولا هم لهم إلا دعوتنا للسير في ركاب الغرب، وأن نستنبط من أوروبا وأمريكا نظمنا السياسية، وأوضاعنا الاقتصادية، وقيمنا الخلقية، ونظرياتنا التربوية، وأساليبنا الأدبية، ونظرتنا التاريخية، بل وتصوراتنا الدينية. وهذا كله يتطلب من الدعاة مواجهة حقيقية لمحاولة صد تلك الهجمات من جهة وإيضاح الحق للناس من جهة أخرى".
قضية شائكة!!
هذا الوضع الذي تحدث عنه الدكتور جعفر، هل يعني بالضرورة ظهور العلماء والدعاة في هذه القنوات لإيصال رسالة الحق للناس، أم أن ذلك الأمر يعد من الممنوعات نظرا لما تشتمل عليه غالب هذه القنوات من فساد عريض وتحلل واضح وبعد عن الأخلاق والقيم بل ومحاربة الدين والتدين؟
الدكتور عبد الله اللحيدان (الأستاذ المشارك بكلية الدعوة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) يرى أن قضية خروج العلماء والدعاة في القنوات الفضائية من الأمور الشائكة التي تحتاج إلى تريث وتأمل قبل الحكم بالمشاركة فيها أو عدمها، وذلك لما تشتمل عليه هذه القنوات من مخالفات واضحة للشريعة الإسلامية.
ويعرض الدكتور عبد الله لعدة إشكاليات تجعل مثل هذا الحكم أكثر صعوبة، فكثير من الناس يرى في خروج العلماء والدعاء في مثل هذه القنوات مبررا لمشاهدتها ومتابعتها معتبرين أن خروجهم يعني إقرارا ضمنيا لما فيها.
والمشكلة الأخرى التي يعرضها الدكتور عبد الله هي: ما مدى استطاعة العلماء والدعاة إظهار دين الله على حقيقته في هذه القنوات، بمعنى هل بإمكانهم حقيقة بيان ما عليه هذه القنوات من مخالفات شرعية لا يقرها الدين، وبالتالي يرفضها أمثال هؤلاء العلماء، أم أن برامجهم تكون مسيسة بحيث لا يتعرضون لمثل هذه القضايا، وهل يستطيع العلماء منع المحاذير الشرعية في البرامج التي يقدمونها، سواء ما كان يصاحب هذه البرامج من موسيقى في بداية البرنامج أو نهايته ، أو إعلانات تتخلل البرنامج قد اشتملت على ما ينافي الآداب والأخلاق، أو اختلاط يحدث .. أو غير ذلك من المحاذير الشرعية .
ثم -والكلام ما زال للدكتور اللحيدان- هل يبقى العلماء والدعاة على وقارهم ومكانتهم التي شرفهم الله بها أثناء خروجهم في مثل هذه البرامج، أم أن هذه الفضائيات تؤدي شيئا فشيئا إلى النيل من العلماء وإذهاب وقارهم وهيبتهم ، وبالتالي إلى الاستهانة بأحكام الله وشريعته.
كل هذه الأمور في نظر الدكتور اللحيدان توجب التريث التام قبل إبداء رؤية معينة تجاه هذه القضية، على أن الأمر في جملته راجع إلى تقدير المصالح والمفاسد تقديرا صحيحا مبنيـا على الأدلة والواقع بعيدا عن العواطف والاندفاع والحماس.
وسيلة وليست غاية!!
أما الدكتور خالد القريشي (الأستاذ بكلية الدعوة) فيقرر أن القنوات الفضائية من الوسائل التي أنعم الله بها على عباده، فإن استغلت في الخير كان خيرها عظيما، وإن استغلت في الشر ظهر غير ذلك، وهذا هو ما يدعونا إلى القول بضرورة استغلال الدعاة لها وعدم إهمالها والبعد عنها.
ويفرق الدكتور القريشي بين نوعين من القنوات:
1- القنوات التي يغلب عليها الشر ، والمعروفة بمحاربة الإسلام والخروج على قواعده وأصوله وأحكامه، أو تلك المعروفة بترويج البدع والمنكرات.
2- تلك التي تشتمل على الخير والشر والتي ليس من أهدافها محاربة الإسلام والخروج عليه ولا نشر البدع والخرافات. فالأولى لا ينبغي للعلماء والدعاة الخروج فيها، أما تلك الثانية فيرى أهمية المشاركة فيها بما ينفع الناس ويبين لهم أمور دينهم.
ومع ما سبق، فإن الدكتور القريشي يرى أن العلماء الكبار الذين هم محل القدوة عند الناس ولهم المنزلة الرفيعة بينهم لا ينبغي لهم الخروج في مثل هذه القنوات ـ أيا كانت ـ إلا بعد أن تتوجه هذه القنوات التوجه الصحيح الموافق للشريعة الإسلامية، إذ إن خروج أمثال هؤلاء قد يوحي لبعض الناس بأن ما تشتمل عليه هذه القنوات من مخالفات ـ ولو يسيرة ـ أنه لا ضرر منها ولا إشكال فيها، بخلاف سائر طلاب العلم والدعاة فإن نظرة الناس لهم عادة على أن هذا اجتهاد شخصي منهم.
ومما يدعو إلى هذه الرؤية هو الآثار الإيجابية التي تستفاد من خروج طلبة العلم لبث علمهم بين الناس عبر هذه القنوات، والتي يأتي في مقدمتها بحسب الدكتور القريشي التجاوب الكبير من الجمهور، سواء عن طريق الأسئلة أو الاستفسارات أو غيرها، مما يعني وصول الخطاب الدعوي لفئة كبيرة من الناس وتفاعلهم معه، وهذا له أثر طيب على القريب والبعيد، هذا بالإضافة إلى تمكن بعض الدعاة من بيان كثير من الأخطاء التي تقع فيها هذه القنوات والمخالفات الشرعية التي تحتوي عليها برامجها.
أضف إلى ذلك - والكلام ما زال للدكتور القريشي الذي يتكلم من منطلق تجربته الشخصية - الآثار الإيجابية العديدة العائدة على بعض هذه القنوات والمتمثلة في زيادة البرامج الدينية ، وتغيير بعض البرامج الشديدة المخالفة ، وبث الروح الإسلامية بينهم ، ودفعهم لتقديم رسالة هادفة لجمهورهم، وهذا أمر ملموس ومشاهد ، وأثره إن لم يكن على المدى القريب فهو على المدى البعيد يؤتي ثمارا يانعة .
فسحة تأمل
وبعد هذه الجولة التي من خلالها عرضنا بعض وجهات النظر حول الدعوة عبر القنوات الفضائية، نعرض رأي الدكتور عبد الوهاب الطريري، والذي يتناول الموضوع من زاوية أخرى، حيث يعزو استنكار بعض الأخيار لظهور بعض الدعاة أو العلماء في الفضائيات إلى أسباب ومبررات نفسية غالبا، ويبين أن منطلقها النفرة من العفن المنتشر المندلق من أحشاء هذه القنوات الفضائية - على حد تعبيره - مبينا أن أمثال هؤلاء يخشون أن تعطي مشاركة هؤلاء الأفاضل شرعية لهذه القنوات.
ويدعو الدكتور الطريري الجميع إلى إعطاء فسحة للتأمل، وهو بذلك يقف وقفات تحليلية، تجاه هذا الأمر خاصة وتجاه هذه القضية بشكل عام، فيذكر أولا بعض المسلمات التي ينبغي التنبه لها قبل الخوض في مثل هذه القضية، من ذلك كما يقول:
"إن هذه القنوات منطلقة منذ سنين لم تأخذ شرعيتها من مشاركة العلماء، وإنما فرضت نفسها مستغلة السآمة والإملال التي كانت وسائل الإعلام المحلية تغشيها لمستمعيها ومشاهديها".
ويؤكد الدكتور الطريري على أن مقاطعة هذه القنوات من قبل العلماء والدعاة لن تقلل فضلا عن أن توقف ما تبثه هذه القنوات من تماجن وتفحش ولهو غير بريء، وعلى العكس من ذلك فإن المشاركة سوف تزاحم هذا الإلهاء، وتوقظ بعض الغافلين.
ويتساءل بعد ذلك ماذا كنا سنقول لو خرج في هذه الفضائيات صاحب بدعة يروج لبدعته، أو محرف للدين يزين انحرافه، أو ضال يدعو إلى ضلالته، ألسنا سنصيح صياح من تشتعل النار في ثيابه؛ لأن هناك من فتن الناس وأضلهم، فما بالنا نرى الناس يقبلون الضلال ولا يقبلون الحق.
ويضيف أيضا : هل ستظل مشاريعنا ومشاركاتنا مؤجلة بانتظار الكمال الذي سيأتي لاحقا، فنتوقف بانتظار قناة فضائية فيها كل ميزات القنوات الموجودة وتخلو في الوقت ذاته من سلبياتها. إنه انتظار- ولا شك- طويل.
ثم من لهؤلاء اللاهين الذين استلبتهم هذه القنوات فخدرت مشاعرهم واستثارت شهواتهم، من لهم إذا لم نقتحم نحن عالمهم، ونحرك مشاعرهم ونسمعهم الكلام الذي يجب أن يسمعوه؟
ويذكر هؤلاء الشباب بحقيقة هامة فيقول: عندما كانت بعض هذه القنوات تقدم نماذج منفرة على أنهم يمثلون الإسلام كنا نشعر بمضاضة الألم لهذا الطرح المشوه، ونرى أن هذه القنوات قد كسبت من وجهين: تقديم صورة مشوهة عن الإسلام من خلال فكر هؤلاء وطرحهم المتوتر. والوجه الثاني : الاستفادة من الإثارة الإعلامية التي يقدمها هؤلاء بالمجان لهذه القنوات.
لذا فإن الدكتور الطريري يرى أنه قد آن الأوان لتقديم البديل الصحيح من خلال الطرح العلمي المؤصل، والدعوة الخيرة المؤثرة على علم وبصيرة.
ويعود فيؤكد على أن الرفض - في أحيان ليست قليلة -قد يكون مرده نفسيا (سيكولوجيا) وليس استدلالا شرعيا مؤصلا بنصوص الوحي ومقاصد الشرع، والنفوس تحتاج إلى أن تراض للانقياد لمدلولات النصوص ، ولو خالف ذلك رأيها المسبق، واجتهادها حينا من الدهر.
وردا على الذين يقولون : إن هذه القنوات تستغل العلماء والدعاة وتحقق من خلالهم انتشارا وشهرة ونفوذا ، يقول الدكتور الطريري: وهم أيضا - أي العلماء والدعاة - يستغلونها ويصلون من خلالها إلى قطاعات وشرائح اجتماعية لم يتم التواصل معها بعد، فكم رأينا الأثر الخير لمشاركة بعض الأفاضل، وتحقق - من خلال ذلك - وصول الكلمة الطيبة الهادية إلى من لم يتعود سماعها ولم يناد بها يوما من الدهر.
أسواق الجاهلية!
وما إن ينتهي الدكتور الطريري من عرض وجهة نظره - الداعية لاستغلال القنوات الفضائية من قبل طلبة العلم للوصول إلى الناس وإيصال الحق لهم- حتى يعرض بعض الأدلة التي تؤيد ما ذهب إليه، فيذكر ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح (16020-16027) عن ربيعة بن عباد الديلي قال:"رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: "يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" ويدخل فجاجها، والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحدا يقول شيئا، وهو لا يسكت، يقول:" أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"... الحديث.
ويقول معقبا على ذلك : فها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يغشى أسواق الجاهلية التي كانت فيها الأصنام، وزقاق الخمور، وكان فيها الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب والاستقسام بالأزلام. ولم يجعل له - صلى الله عليه وسلم - سوقا خاصا ليأتيه الناس فيه، ولكن أتاهم حيث هم ودعاهم -صلى الله عليه وسلم-.
ثم يذكر الدكتور الطريري أيضا ما أخرجه أحمد (6/25)، وابن حبان (7162) بسند صحيح عن عوف ابن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم- وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيدهم، وكرهوا دخولنا عليهم فقال - صلى الله عليه وسلم - " يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلا يشهدون أن لا إله إلا الله يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليهم"...الحديث.
ويعقب على ذلك بقوله فها هو - صلى الله عليه وسلم - يدخل على اليهود في كنيستهم ليدعوهم بدعوة الإسلام، وكما دخل - صلى الله عليه وسلم - كنيستهم التي يتعبدون فيها، دخل عليهم بيت مدراسهم الذي يتعلمون فيه، ومما يدل على ذلك أيضا ما أخرجه البخاري في صحيحه (6944) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فناداهم "يا معشر يهود أسلموا تسلموا، فقالوا: بلغت يا أبا القاسم، فقال: ذلك أريد، ثم قالها الثانية ثم الثالثة.."الحديث. (بيت المدراس: هوالبيت الذي تقرأ فيه التوراة على الأحبار).
ويتساءل الدكتور الطريري: ما الذي يمكن أن يقال في كنيسة اليهود وفي بيت مدارسهم أليس قولهم: يد الله مغلولة، وعزير ابن الله، والله فقير ونحن أغنياء، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
ويخلص بعد ذلك إلى أن هذه القنوات ليست شرا من كنيسة اليهود ولا بيت مدارسهم.
إني دعوت قومي!!
لكن الدكتور اللحيدان يرى أن الحوادث العينية لا يقاس عليها الأمور العامة، ويبين أن هناك فرقا بين الخروج في فضائيات المسلمين ليوجه خطابا دعويا للمسلمين وبين الخروج في قنوات الكفار ليوجه خطابه الدعوي لهم، فإذا ساغ الخروج في قنوات الكفار باعتبار أنه لا ذنب بعد الكفر، وأنه لا طريق لدعوتهم إلا غشيانهم في أماكن تواجدهم وتجمعاتهم، فإن الأمر يختلف بالنسبة لما يتعلق بالمسلمين، فإن الأمر يحتاج إلى نظرة أبعد من ذلك مع النظر في عمومات الأدلة والتأمل في المصالح والمفاسد المترتبة على ذلك.
وبخلاف ما سبق من الأدلة يعرض الدكتور الطريري أدلة أخرى والتي تتبين في نظره جواز المشاركة في هذه القنوات فمن ذلك - كما يقول حفظه الله - قوله تعالى- :"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره"، وقوله :"وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره" .. فنهت الآيتان عن الجلوس معهم حال إعلانهم بالكفر والاستهزاء، ولم تمنع من ذلك مطلقا "حتى يخوضوا في حديث غيره" وكذلك المشارك في هذه القنوات هو بمشاركته يرفع الخوض واللهو واللغو ليحل محله الدعوة للخير والحق .
قال الشيخ ابن سعدي في تفسير آية الأنعام " أمر الله بالإعراض عنهم حال خوضهم بالباطل حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره، فإذا كان في كلام غيره زال النهي المذكور، وهذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله؛ لأنه كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، فإن استعمل تقوى الله بأن كان يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ويترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه فهذا ليس عليه حرج ولا إثم " انتهى مختصرا .
وما أروع قوله - رحمه الله - زوال الشر أو تخفيفه، فإن تخفيف الشر أو مكاثرته بقدر من الخير مكسب لا يستهان بالظفر به .
وقال تعالى عن نوح عليه السلام :"رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا.....* ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا". ويعلق على ذلك الدكتور الطريري بقوله: إن هذا الجهد الدؤوب الذي لا ينقطع، ولا يكل ولا يمل، ولا يفتر ليلا ونهارا، سرا وجهارا لا يكون إلا بإصرار على المواجهة لهم، ومتابعتهم حيث ذهبوا، والجلوس إليهم حيث اجتمعوا، ولو كان ذلك عند آلهتهم ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا.
الضوابط الشرعية للخروج في القنوات
أما الشيخ صالح المنجد فيقول: إن في القنوات الفضائية باطلا كثيرا لا بد من التصدي له، وشر لا بد من مزاحمته، ورؤوس فتنة وأئمة مضلين لابد من التصدي لهم لبيان زيف مقالتهم وبطلان فتاواهم على الملأ من الناس من خلال الوسائل التي يصلون إليهم عبرها.
ويبين الشيخ المنجد أن هناك الملايين ممن لا يصل إليهم صوت الحق عبر الكتاب والشريط وإنما يصل عبر البث التلفزيوني.
ومع تأكيده على ضرورة اقتحام هذه الوسائل والمشاركة فيها منوها بالآثار الطيبة التي أثبتت نجاحا واعدا - كما يقول - فإن الشيخ المنجد يرى أن هناك ضوابط شرعية لا بد من توافرها حتى يجوز خروج الدعاة في مثل هذه القنوات، فأهمها أن يقول الداعية الحق ما أمكنه ولا يداهن، وليحذر من قول الباطل وإقراره، وإذا كان الساكت عن الحق شيطانا أخرس فإن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
ومن الضوابط ألا تكون القناة التي يخرج فيها متخصصة لأهل البدع، بحيث يعرفون بها ويشتهرون فيها.
ومنها كذلك ألا يوجد منكر ومحرم في الاستوديو أثناء عرض البرنامج كامرأة أو نساء متبرجات أو موسيقى تصدح في استوديو التصوير.
ثم إن على الداعية أن ينتهز ما أمكن من الفرص أو من خلال إجابة بعض الأسئلة ليبين للناس أن خروجه في هذه ا لقنوات المشتملة على أمور باطلة لا يعني إقرارا لها ولا تزكية لها، بل يبين حكمها الشرعي، ويدعو القائمين على القناة لتصفيتها من المنكرات.
وينبه الشيخ المنجد أنه إذا وجدت قناة إسلامية لها تأثير وانتشار فنستغني عن القنوات المختلطة.
كريزما مؤثرة
و لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى فتوى عن المشاركة في وسائل الإعلام ونصها: [ أنجح الطرق في هذا العصر وأنفعها استعمال وسائل الإعلام، لأنها ناجحة وهي سلاح ذو حدين، فإذا استعملت هذه الوسائل في الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من طريق الإذاعة والصحافة والتلفاز فهذا شيء كبير ينفع الله به الأمة أينما كانت، وينفع الله به غير المسلمين أيضا حتى يفهموا الإسلام، وحتى يعقلوه ويعرفوا محاسنه، ويعرفوا أنه طريق النجاح في الدنيا والآخرة.
والواجب على الدعاة وعلى حكام المسلمين أن يساهموا في هذا بكل ما يستطيعون، من طريق الإذاعة، ومن طريق الصحافة، ومن طريق التلفاز ومن طريق الخطابة في المحافل، ومن طريق الخطابة في الجمعة وغير الجمعة، وغير ذلك من الطرق التي يمكن إيصال الحق بها إلى الناس، وبجميع اللغات المستعملة حتى تصل الدعوة والنصيحة إلى جميع العالم بلغاتهم.
وأخيرا يؤكد الدكتور الطريري على أن المكروبين من المشاركة في الفضائيات ليسوا الأخيار البررة الذين يتوقون إلى منابر إعلامية نقية لا لوث فيها، ولكن - أيضا- هناك من كرب لذلك، وهم الممتعضون من بلوغ دعوة العلماء والدعاة إلى فضاء الفضائيات، ومثالنا على ذلك، ما كتبه أحدهم في إحدى الصحف يشنع على المشايخ الذين يسميهم بالشباب، وينقم عليهم ما يتمتعون به من "كاريزما مؤثرة"، ولا ندري كيف نناقش من لم يجد ما يتهم به إلا هذه الكاريزما؟